سيناريو "لبننة" اليمن في سياقه الإقليمي

تعود جذور تفكك المشهد اليمني أساساً إلى البنية العشائرية للاجتماع السياسي اليمني. وإن أسهمت عوامل إقليمية بصورة كبيرة أيضاً في الاستقطاب الأيديولوجي على مدار العقود السابقة. على هذا الأساس يمكن رد ظهور الحوثيين إلى البعدين الآتيين:
1- العامل السوسيو – سياسي/اقتصادي:تعود إحدى أسباب ظهور الحركة إلى التهميش الذي تعرضت له الأقاليم الشمالية منذ سبعينيات القرن الماضي إذ ركزت الجمهورية العربية اليمنية على تنمية العاصمة والمنطقة المحيطة بها على حساب الهوامش الغنية بالموارد الطبيعية التي تعرضت لإهمال علي المستوى التعليمي، والخدمات والأمن. وهو الأمر الذي زاد في الثمانينيات. في هذا السياق، ومع التحسن النسبي لوسائل الاتصال وحدوث تحولات ديموغرافية، بدأت شريحة عريضة من أتباع المذهب الزيدي بشمال اليمن ينظرون إلى أنفسهم كجماعة موحدة ومتجانسة، أو بحسب تعبير بندكت اندرسون جماعة مُتخيلة (Imagined Community).
2- العامل الأيديولوجي: على المستوي الفكري، تعرضت شريحة معتبرة من الزيدية لعملية "أدلجة" تدريجية نتيجة التأثر بالنموذج الإيراني تزامناً مع حضور أضداد هوياتية/مذهبية تمثلت في انتشار التيار السلفي باليمن. شكل توسع الظاهرة السلفية بأطيافها الأرثوذوكسية والجهادية في اليمن "الآخر" الذي نظر الحوثيون إلى أنفسهم من خلال وجوده.
لم تظهر جماعة الحوثي ويتعاظم نفوذها في اليمن فقط كنتاج لديناميكيات التنافس الإقليمي على اليمن بل إلى عوامل بنيوية تعود إلى عقود من التهميش السياسي وخلل في توزيع الثروة بسبب طبيعة الاقتصاد الريعية في ظل البناء العشائري للمجتمع اليمني.
لا زالت اللُعبة صفرية
لم تتراجع طهران بعد عن رؤيتها الصفرية للعبة الإقليمية ولخصمها الرئيسي في المنطقة, الرياض، و إن استطاع التمدد الداعشي أن يقرب بين طهران و الرياض بصورة كبيرة حتى و إن لم تصل درجة التقارب إلى المستوى الذي وصلت له إبان حكم الرئيس خاتمي. ولكن في الوقت ذاته يقع روحاني في مأزق كيفية تحقيق تقارب نسبي مع الرياض تزامناً مع إرضاء الحرس الثوري والشريحة الملتفة حول المرشد الأعلى.
في حوار متلفز له في يوم 29 من شهر أبريل/نيسان الماضي؛ تحدث الرئيس حسن روحاني عن رؤيته لعلاقة إيران بالسعودية قائلاً: "لا يوجد عائق من جانبنا. نأمل أن يتفهم السعوديون الأوضاع المتغيرة في المنطقة ويقرروا أن السلام والأخوة والأمن وإخراج الإرهابيين من المنطقة هو الخيار الأمثل. بمشيئة الله إذا استطاعوا إدراك هذا الأمر لن تكون لدينا مشكلة معهم". بمعنى آخر، يقصد روحاني أن على الرياض أن تُكيف سياستها مع الواقع الذي تفرضه طهران إقليمياً لكي تتقارب معها.
لكن في المقابل عين الإيرانيون سفيراً جديداً لهم في الرياض في 17 أغسطس/آب (أي بعد سقوط الموصل بشهرين) اعتبره السعوديون اختياراً موفقا، و هو حسين صادقي المُقرب من التيار الإصلاحي و شقيق الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي. عمل صادقي في عهد الرئيس خاتمي سفيراً لإيران في المملكة.
عامل الجغرافيا
لم يكن روحاني يقصد في كلمته سوريا فقط، بل اليمن أيضاً. لكن أي أهمية تشكلها صنعاء بالنسبة لطهران؟. يمكن استحضار المقولة الشهيرة لباحث الجغرافيا السياسية البريطاني "هالفورد ماكيندر" عن الصراع على أوراسيا لصياغة مقولة مشابهة عن أهمية اليمن بالنسبة لإيران:
- من يحكم شرق أوروبا يقود قلب الأرض.
- من يحكم قلب الأرض يقود جزيرة العالم.
- من يحكم جزيرة العالم يقود العالم.
قياساً على مقولة ماكيندر، فإنه بالنسبة لطهران، من يحكم صنعاء يتحكم في المدخل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية ومضيق باب المندب، ومن يتحكم في المضيق يملك التأثير على الأسواق العالمية للطاقة والاقتصاد العالمي. فبحسب ما أورد موقع الإدارة الأمريكية لمعلومات الطاقة، يمر 3.4 مليون برميل نفط يومياً خلال المضيق إلى أوروبا والولايات المتحدة في عام 2011. شكل هذا الرقم انخفاضاً من 4.5 مليون برميل نفط يومياً في عام 2008. فضلاً عن أهمية استقرار تجارة النفط وتوسع تجارة الغاز المُسال عالمياً، ستزيد أهمية المضيق في الأعوام القادمة مع تصدير كل من إسرائيل وقبرص لغازهما المُسال إلى الأسواق الآسيوية. فمرور الغاز القادم من شرق المتوسط عبر المضيق إلى آسيا في السنوات القادمة يعني أن حليف إيران القوي في اليمن سيراقب الوضع الملاحي عن كثب، معززاً من النفوذ الجيوبوليتيكي لطهران ربما على حساب تل أبيب.
لم يكن لجماعة الحوثي أن تصل إلى مهاراتها القتالية التي مكنتها من إخضاع خصومها من آل الأحمرالذين يقودون حزب التجمع اليمني للإصلاح، والسلفيين بدماج وعمران فضلاً عن الاقتتال المستمر في الجوف وصولاً لصنعاء، دون الحصول على مدربين وسلاح متطور نوعياً من إيران على مدار الأعوام السابقة. توفرت هذه الإمكانات من خلال التقارب الذي حدث بين إيران وإريتريا منذ أواخر عام 2006 على خلفية سياسة واشنطن الداعمة لأثيوبيا التي دفعت بأسمرة للاتجاه إلى نحو طهران، حيث اكتسبت الأخيرة دورا ونفوذا أكبر في منطقة القرن الأفريقي اقتصادياً وعسكرياً. فمنذ أواخر عام 2008، أصبحت السفن الإيرانية التي تقوم بعمليات تأمين ضد القرصنة في خليج عدن تستخدم ميناء عصب الأريتري. ومن خلال عمليات التأمين البحري، استطاع الحرس الثوري الإيراني مد جماعة الحوثي بالمزيد من المدربين والسلاح المتطور.
على هذا الأساس يمكن فهم سبب عدم قبول جماعة الحوثي بالتقسيم الأفقي لإقليم آزال بسبب تقييده جغرافياً لهم من الجهة الغربية المُطلة على البحر الأحمر. يقول الصحافي اليمني فارغ المسلمي:
"إحدى المحددات الرئيسة لجغرافية هذا الإقليم كانت على ما يبدو وقائية، تسعى لحصر تمدّد حركة الحوثي وبسط نفوذها على الإقليم بالكامل كجزء من مساعيها لتشكيل دولة مستقلة كما يذهب البعض. وهكذا، وبدلاً من اعتماد التقسيم الأفقي، فيضم الإقليم صعدة، وإلى جوارها حجة على البحر الأحمر كمنفذ بحري، والجوف المحاذي لها شرقاً كمصدر للثروات النفطية، فتكتمل عوامل قيام "دولة"تمتلك منفذاً بحرياً، وثروة، وتفصل باقي مناطق اليمن عن السعودية، تم التقسيم عمودياً ليضم الإقليم أربع محافظات مغلقة. " [1]
لذلك حاول الحوثيون الضغط على الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، للحصول على مدينة ميدي، التي تمتلك عددا من الجزر وميناء استراتيجيا، على ساحل البحر الاحمر، وتبعد عن صنعاء نحو 450 كيلومترا وعن صعدة - معقل الحوثيين - نحو 180 كيلومترا، بينما يتبع ميناء ميدي حاليا مدينة حجة التي ستكون ضمن إقليم تهامة ويبعد عن المدينة نحو 175 كيلومترا. ومن المعروف أن إيران تمد الحوثيين بالمعدات والسلاح عبر ميناء ميدي البحري.
على الجانب الآخر، يرغب الحوثيون في السيطرة على محافظة الجوف (143 كيلومتر شمال شرق صنعاء) الغنية بالنفط والتي تحاذي الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية. فالصراع في هذا الإقليم يدور حول النفط والسيطرة عليه بين الأطراف اليمنية المتصارعة.
القبول بخيار اللبننة
ما لم تكن خطوة متعمدة، فإن قبول الرياض بسيطرة الحوثي على صنعاء ليس سوي خطوة متوقعة ما دامت لم تستطع أن تكبح زحف الحوثي على دماج وعمران منذ البداية سواء عبر التفاوض مع طهران للتوصل إلى تسوية ما تُفضي إلى توازن داخلي للقوى أو التدخل عسكرياً بصورة مباشرة. لأن إسقاط دماج ثم عمران كان يعني أن الدور قادم على العاصمة صنعاء عاجلاً أم آجلاً.
يتكرر الآن ذات سيناريو "اللبننة" مرة أخرى لكن في اليمن. يتشابه قبول الرياض بالاتفاق الذي وُقع بين الحوثيين والرئيس اليمني بما حدث في مؤتمر الطائف في عام 1989 عندما وافقت الرياض على استثناء حزب الله من شرط نزع السلاح الذي كان مطلوباً من كل المليشيات اللبنانية الالتزام به لإنهاء الحرب آنذاك.
في هذا الصدد، يقول خالد الدخيل بمقال له بجريدة الحياة اللندنية: " سقوط صنعاء في يد الحوثيين وتبعية هؤلاء كما حزب الله لإيران يعني أننا نقترب من تكرار اللعبة السياسية اللبنانية في اليمن. الحوثيون لن يتخلوا عن السلاح، من خلاله وصلوا إلى ما وصلوا إليه، ومن دونه سيخسرون ثقلهم في المعادلة. ثم إن تخليهم عن السلاح سيوقف الدعم الإيراني عنهم. سيلعبون في الجزيرة العربية دوراً شبيهاً لما انتهى إليه دور حزب الله في الشام. الاتفاق الذي توج به سقوط المدينة، وإضعاف جماعة الإصلاح من دون بديل آخر في الأفق حتى الآن، يعني أن صعود الحوثيين سيفرض شراكة إيرانية على السعودية في اليمن. لا أظن أن هذا يخفى على الرياض، لكن يخفى علينا حتى الآن لماذا قبلت بكل ذلك. أو هل قبلت حقاً؟ " [2]
طبقاً لاتفاق السلم والشراكة الوطنية سيكون للحوثيين يد في اختيار التشكيل الوزاري اليمني وهو ما يعني أنه سيعتمد على "الكوتة" أو نظام المحاصصة بينهم وبين الحراك الجنوبي وربما مكونات الحزب التجمع اليمني للإصلاح. وتبعاً للاتفاق سيعاد النظر في تشكيل الهيئة الوطنية للإشراف على مخرجات الحوار الوطني. من خلال الوضع الجديد ربما يتمكن الحوثيون من إعادة ترسيم حدود أقليم آزال بانتزاع المناطق التي كانوا يرغبون في اقتطاعها من أقاليم تهامة وسبأ. بذلك يحصل الحوثيون على منفذ بحري ومناطق غنية بالنفط.
يشير جمال خاشقجي في مقال له بنفس الصحيفة إلى فكرة تشكيل الرياض لـ"توازن للقوى" في الساحة اليمنية: "يمن ديموقراطي هو الحل، حينها ستجد المملكة حليفاً في اليمن يحتاج إلى دعمها بل حتى حمايتها، ويستطيع أن يحقق توازناً مع الحوثي يمنعه من التفرد بالحكم ويتخذ قرارات تضر بمصالح المملكة... وما لا يدرك كله لا يترك جله. " [3]
السؤال هنا، هل سيتدخل الخليج وينجح في دعم طرف فاعل على الساحة اليمنية لتشكيل توازن للقوى مع الحوثيين؟ هنا لا يتوقف الأمر على هيمنة الحوثيين على الساحة اليمنية بل القاعدة التي بدأت توسع عملياتها ضد الحوثيين والتي سينعكس توسع عملياتها على الأمن اليمني والخليجي ككل. إذاً قد تكون القاعدة ضمن المعادلة أيضاً. ذكر وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، ضمن خطابه بالأمم المتحدة: "دائرة العنف والصراع (في اليمن) ستمتد بلا شك لتهدد الأمن والاستقرار على المستويين الإقليمي والدولي وقد تصل لمرحلة تجعل من الصعوبة بمكان إخمادها مهما بذل لذلك من جهود وموارد"[4].
لكن إلى أي مدى تستطيع الرياض القيام بهذه المهمة وحدها؟. يقول إبراهيم شرقية، الباحث ببروكينجز الدوحة، في مقال له بالنيويورك تايمز الأمريكية: "القوة لا تتُرجم إلى شرعية: سيحتاج الحوثيون إلى مشاركة أحزاب أخرى، خاصة خصومهم من حزب الإصلاح، للحكم" [5]. إذاً هل من المحتمل حدوث تنسيق سعودي - قطري لموازنة الهيمنة الإيرانية في الداخل اليمني أو على الأقل اتفاق ضمني يُفضي إلى تخفيف حدة التنافس بينهم؟ أو بمعنى آخر هل تستطيع الرياض الخروج وحدها من المأزق اليمني من خلال دعم شبكة من التحالفات العشائرية دون شراكة إقليمية في اليمن؟
سيكون خيار "اللبننة" إذا تحقق باهظا ليس على اليمن والخليج فقط بل على الأمن الإقليمي للمنطقة العربية. لن تتوقف التطورات في اليمن عند هذا الحد ولن تكون اليمن الأخيرة.
[1]فارغ المسلمي, إقليم آزال في اليمن: مخزن سلاح وشيوخ وصراع, جريدة السفير 30 أبريل/أيلول 2014
[2]خالد الدخيل, سقوط صنعاء وتكرار التجربة اللبنانية, صحيفة الحياة اللندنية, 25 سبتمبر/أيلول 2014.
[4] السعودية مُحذرة اليمن: العنف قد يهدد الأمن الدولي, صحيفة النهار (المصدر رويترز), 28 أيلول 2014.
[5]Ibrahim Sharqieh, The Price of Abandoning Yemen, Sept. 22, 2014.
-
2023-01-08 مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة (9)
-
2022-02-28 يوميات جوردون في الخرطوم
-
2022-01-18 عن المثقف الإسلامي والأمراض العربية
-
2022-01-18 تهافت الفلاسفة