لقاء مع المترجم الفرنسي فيليب فيغرو

أجريت هذه المقابلة مع الدكتور فيليب فيغرو على هامش "النسخة الرابعة من مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة" الذي نظمه منتدى العلاقات العربية والدولية يومي 13 و14 ديسمبر 2017، في قطر، والنسخة الثالثة من "جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي" التي حصل فيها الدكتور فيغرو على المركز الأول في فئة "الترجمة من العربية إلى الفرنسية"، عن ترجمته لمقامات بديع الزمان الهمذاني[1].
فيليب فيغرو مستعرب وحاصل على دكتوراه في الأدب، ترجم من العربية إلى الفرنسية أكثر من خمسة عشر رواية معاصرة، بما في ذلك ثلاثية نجيب محفوظ (جائزة نوبل للأدب 1988)، فضلا عن عدة أعمال من الأدب الكلاسيكي، بما فيها مقامات الهمذاني. كما قدم رسالة للدكتوراه[2] في جامعة باريس-نانتير حول تاريخ الدربوكة والتفاعلات المجتمعية لهذه الآلة الإيقاعية.
ماهي الأسباب التي جعلتكم تهتمون باللغة العربية والأدب العربي؟
اهتمامي باللغة العربية بدأ يتبلور حينما بلغت سن التاسعة عشر، في نهاية المرحلة الثانوية. كما هو معلوم، فإن الاهتمامات الكبرى في حياة الإنسان يمكن أن تتولد أحيانا من أشياء بسيطة. أحسب أن الحروف العربية هي أول شيء أثار انتباهي. اكتشفت فن الخطالعربي في الكتب التي تتحدث عن الفنون العربية، لأنني في تلك الفترة كنت رساما مولعا بالرسم التجريدي. فاستهوتني الانسيابية والجمالية التي تنبثق من تلك الحروف. من جهة أخرى، أحببت الجانب الصوتي للغة. بعد ذلك، تعرفت على عائلة مصرية عاشرتها طيلة فترة دراستي في الثانوية، حيث كان أعز أصدقائي مصريا، وأثناء زياراتي له في بيته، كنت أستمع لأغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهم. يمكنني القول أن اهتمامي نشأ من هذه العناصر. التحقت بالمعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية (INALCO) في باريس، حيث تعلمت اللغة العربية، كما درست اللغة الروسية لعدة سنوات. رغم صعوبة اللغة العربية التي تستدعي أن يتكرس الشخص لها كليا، فإنني وقعت في حبها وعشقها بشكل فوري، مما جعلني أتخلى عن اهتماماتي الأخرى وأنشغل بها حصريا. وفي وقت لاحق، أصبح لي العديد من الأصدقاء العرب، تونسيين ومغاربة ولبنانيين، مازالت تربطني بهم حتى اليوم صداقة وفية ومتينة. زرت المغرب وتونس، عشت سنة في لبنان وثلاث سنوات في القاهرة، حيث عملت في مركز أبحاث (CEDEJ). هذا العشق للغة العربية لم يغادرني قط.
سوف أحكي لكم قصة قصيرة. نشرت مؤخرا كاتبة عربية شهيرة مقالا غريبة في صحيفة عربية، توجهت فيه بالسؤال إلى المستشرقين والمترجمين. كان اسمي واردا في القائمة بجوار إيف غونزاليز وهو صديق وأستاذ في جامعة ليون 2، فضلا عن مترجمين إنجليزيين وألمان آخرين، حيث عبرت عن تساؤلها حول ما يحدث في العالم العربي اليوم -وهو أمر مأساوي، سواء فيما يتعلق بالعراق أو سوريا أو اليمن أو أي مكان آخر- على هذا النحو تقريبا: ألستم متعبين منا ومن كل ما يجري؟ يمكنني الإجابة بالقول إنه أولا وقبل كل شيء، يلعب الغرب والولايات المتحدة دورا هاما ويتحملان مسؤولية كبيرة في هذه المأساة. ثانيا، أود أن أؤكد أن ذلك لا يؤثر بتاتا على ارتباطنا باللغة العربية. بل على العكس تماما، نحن نزداد عشقا لهذه اللغة وللعمل الذي نقوم به. من وجهة نظري، تكتسي أعمال الترجمة أهمية أكثر من أي وقت مضى. في زمن تنتشر فيه العنصرية والشعبوية، أعتقد أن الترجمة يمكن أن تساهم، ولو بشكل بسيط، في مواجهة تلك التيارات المتطرفة.
أتوجه بهذا السؤال عادة إلى المترجمين العرب، ولكن بما أنكم أشرتم إلى الاضطرابات التي تحدث في العالم العربي، أود اغتنام هذه الفرصة لمعرفة وجهة نظركم حول الدور الذي يجب على مترجمي اللغة العربية لعبه لمواكبة هذه التغيرات؟ وما هي الأولويات التي يجب التركيز عليها؟
لا أدري ما يمكنني الإجابة فيما يخص أولويات المترجمين. في هذه الآونة أنا بصدد ترجمة كتاب جميل اسمه "يا مريم" لسنان أنطون وهو مسيحي عراقي يعيش في الولايات المتحدة حيث يعمل أستاذا جامعيا. تظهر الرواية كيف كان المسلمون والمسيحيون في العراق يتعايشون بطريقة جد أخوية. قبل خمسة عشر عاما، كان من الطبيعي أن تجد أسرا مسلمة تتكون من أم شيعية وأب سني دون أن يسبب ذلك أي إشكال. تتضمن الرواية مشهدا جميلا حيث يضطر رب أسرة مسيحية إلى مغادرة منزله وحيّه بسبب القنابل التي توضع أمام بابه. في حوار مؤثّر جدا مع أحد أعز أصدقائه المسلمين، قال له هذا الأخير: "ما دِرنا بالنا عليكم أبو مها. ما دِرنا بالنا عليكم. وإنتو المفروض أمانة برقبتنا." فرد عليه المسيحي: "إحنا ما درنا بالنا عالعراق... كلنا." أعتقد أنه من خلال اختيار كتب من هذا القبيل، يمكن للترجمة أن تعيد الأمور إلى نصابها. يمكن أن تساعد على إبراز الحقائق وعلى محاربة التطرف والتعصب اللذين ينهكان العالم العربي اليوم. دور الترجمة هو مد اليد نحو الآخر، هو بناء الجسور. عندما أترجم، أتذكر دائما بحوث كلود ليفي شتراوس التي تظهر أنه لا توجد مجتمعات أكثر "بدائية" من أخرى. وأن كل مجتمع ـ "بدائيا" كان أم "متقدما" ـ يشتغل وفقا للأساطير والمحظورات المتعلقة به. عندما نترجم لمؤلفين أجانب، مهما كانت الاختلافات الثقافية أو الدينية، ندرك أننا ننتمي إلى نفس العائلة. أعتقد أن عملنا يقتضي منا إبراز هذا كذلك. إظهار أنه بمقدوري إدراك أحاسيس مؤلف يمنيّ عندما يبكي، يفرح، يحبأو يتألم. إظهار أنني قادر، بفضل شعوري الإنساني الكوني، على ترجمة مشاعر تلك الفرحة أو ذلك الحزن بدقة وأن كل ما عدا ذلك ليس له أدنى أهمية.
في ضوء تجربتكم المتميزة، ما هو تقييمكم لعمل الترجمة؟
لقد باشرت منذ أكثر من عشرين عاما عمل ترجمة طويل الأمد. ويمكنني أن أقول إن الترجمة كانت بالنسبة لي ممارسة دائمة قد واكبت جزءا لا يستهان به من حياتي. ولكن، وإن كنت قد ترجمت عشرين كتابا فعلي أن أعترف بأنني لا أبدأ العمل في كل نص جديد دون أن أشعر وكأنني خال من أية معرفة، من أية خبرة. أكاد أتساءل: هل سأبلغ بهذا العمل إلى حسن الختام؟ لماذا؟لأن كل كتاب جديد يفرض علينا قانونه فرضا، ثم لأن عمل الترجمة يقتصر عندي على كلمة واحدة ألا وهي "الكتابة". وأعني بها الكتابة الأدبية التي هي بلا شك من أصعب الفنون. فأن تكتب ليس أن تبعثر جملا على الورق وإن كانت جملا جيدة التركيب. أن تكتب هو أن تعبر عن عواطف، عن انطباعات، عن انفعالات، عن إدراكات أي باختصار عن أشياء لا تكفي الكلمات بطبيعتها للتعبير عنها وحدها. فتتوجب ممارسة الترجمة علينا كتمرين مستمر للتعبير عن العالم الخاص بكل مؤلف. فشتان بين عالم معلمنا نجيب محفوظ – الحضري المستقر في مدينته وعالم إبراهيم الكوني – الكاتب الرحالة الذي ألف هذه التحفة الأديبة المسماة ب"واو الصعرى" وهي قصيدة نثرية رائعة مهداة إلى الصحراء. أو على جانب آخر، عالم أحمد توفيق المغربي والوزير الحالي للأوقاف والشؤون الإسلامية، مع لغته التقنية الخاصة بالمؤرخ وبأمين المحفوظات والراسخة في مغرب تنغرس جذوره في آلاف السنين.
الحقيقة هي أن كل كتاب نشرع في ترجمته يجبرنا على خلق لغة ثانية واستكشاف ما تنطوي عليه من الوسائل والكنوز المهملة.
لست مخترع تقنية أو نظرية خاصة ولا حتى مالك أسلوب وكتابة قد وصل إلى بر التمام. أرى الترجمة كبحث مستمر، كصنعة دائمة التحول وأحب أن أصف نفسي كصنائعي أو كنجار أدبي ينحت مشاعر الآخرين في لغته هو.
يجدر بنا القول إن الترجمة ممارسة مكتملة ومتعددة الوجوه تضمن كافة مناقب الإنسان، أولها التواضع فضلا عن المعرفة وحب البحث وهم الدقة وروح التحدي والإبداع – وهذا ما شعرت به حقيقة أثناء ترجمتي لمقامات بديع الزمان – وحب الآخر واحترامه والصبر والمثابرة وبالخصوص الشعور بالمسؤولية نحو المؤلف.
ما هي الأعمال التي استمتعتم بترجمتها؟
لقد استمتعت بجل الترجمات التي أنجزتها. بدأت مسيرتي في الترجمة برواية "بين القصرين"[3] لنجيب محفوظ في إطار مبادرة مشتركة بين معهد العالم العربي في باريس ودار النشر "جون كلود لاتيس"، حيث عُرضت عليّ ترجمة الجزء الأول من الرواية كمرحلة تجريبية، ثم استمررنا حتى إتمام الثلاثية. رغم أن الأمر تطلب أربع سنوات من الجهد، فإن ترجمة أيقونة الرواية العربية كان مصدر سعادة هائلة. أود الإشارة هنا إلى أن نجيب محفوظ -بالرغم من أن ذلك قد يبدو بديهيا ـ هو المبتكر الأصلي والمتفرد للرواية العربية. كل الذين أتوا بعده هم أبناؤه الروحيون! على غرار الأجيال الأخرى التي برزت مثل جمال الغيطاني وعبد الرحمن منيف. فيما بعد، ترجمت رواية صغيرة أخرى لنجيب محفوظ تدعى "القاهرة الجديدة[4]".
الكاتب العربي الذي أفضل، الذي يبهرني والذي أعتقد أنه كاتب عظيم ولكن للأسف لم أتمكن من فرضهفي فرنسا هو إبراهيم الكوني. إنه كاتب ليبي ألف العديد من الكتب. ترجمت له "المجوس[5]"، "واو الصغرى[6]"، "نداء من كان بعيدا[7]" و "من أنت أيها الملاك[8]". يمكن اعتباره كنظير لمنيف الذي صور، من وجهة نظر سياسية جدا، وصول شركات النفط في المملكة العربية السعودية ووصف تأثيراتها على العادات والتقاليد في الصحراء. الكوني من جهته تموضع في سجل آخر حيث أخذ على عاتقه الدفاع عن نمط عيش الطوارق، لأنه ينتمي إلى ذلك الشعب البربري من الرحل، رغم أنه ألف جميع أعماله باللغة العربية. يتميز هذا الكاتب بكونه بلور "منظومة" متكاملة كما أن لديه فكرا خاصا به. أساس فلسفته هو أن تاريخ البشرية عرف سقطتين أساسيتين: الأولى هي سقوط آدم وحواء (الخطيئة الأصلية، وفقا للكتاب المقدس) أما الثانية فهي الاستقرار، عندما شرع الناس الذين كانوا رحلا ببناء منازل صلبة. منذ اللحظة التي تأسست فيها المدن، بدأت تتولد الرغبة في الثروة.على سبيل المثال، الذهب (أو التبر) هو علامة أساسية لهذه الرغبة بالنسبة للكوني. هذه فكرة نجدها كذلك في الكتاب المقدس، أي أنه عندما يبدأ المرء يهتم بالمال أو الذهب، فإنه يفقد كل المشاعر الجميلة، كمشاعر الصداقة والإنسانية. الذهب هو ما يتعارض مع الروح. إبراهيم الكوني أسس نظاما فلسفيا متكاملا ومنظما للغاية، وجعل كل عمل من أعماله الرائعة تتطرق لجزء صغير من هذا النظام. بطبيعة الحال، كتابه الرئيسي هو "المجوس" وهو عبارة عن مؤلف ضخم، ولكن بالنسبة لي الجوهرة الفريدة هي "واو الصغرى". "واو" هو إسم واحة وهمية أسطورية، تقع في الصحراء الليبية، وهي تعبير عن الجنة المفقودة التي يطمح الناس إليها ويعبرون الصحراء من أجل الوصول إليها. قصة كلها شاعرية استهلها الكاتب بمشاهد خلابة تصف هجرة الطيور. هي تحكي قصة زعيم قبيلة وجد نفسه مضطرا لتحمل أعباء قبيلته وإدارة شؤونها بعد وفاة والده كما يقتضي ذلك العرف. فكان يتحتم عليه حل المشاكل اليومية والقضائية لأفراد القبيلة. هذه المسؤولية أصبحت تؤرقه لأنه يعلم أنها ستجبره على التخلي عن الشعر والحب اللذين يعتبرهما أساسيين في حياته. فقرر رفضها وسلك طريق سعي روحاني وصوفي في حمادة صحراء طرابلس. كل شيء عند إبراهيم الكوني له بعد شعري، خيالي، روحي وصوفي. في عناوين فصوله، هناك دائما إشارة إلى مختلف الثقافات الدينية العالمية: البوذية، الشنتوية، الإسلام، والكثير من الصوفية والمسيحية. قال لي ذات مرة: "عندما أقرأ الكتاب المقدس والأناجيل، أنا مسيحي، عندما أقرأ القرآن، أنا مسلم وعندما أقرأ الأوبانيشاد، أنا هندوسي." إنه شخص يتغذى من هذه الروحانيات. كما قلت من قبل، أعتبره كاتبا عظيما ترجمت أربعة من كتبه. ولكن للأسف، فإن أدبه لم "يشدّ" القارئ الفرنسي،على عكس ألمانيا التي لقي فيها نجاحا كبيرا.
ترجمت كتابين لأحمد توفيق (الذي لا يقدِّم نفسه على أنه كاتب رغم أنه يمتلك كل المؤهلات) وأعتبرهما كذلك جوهرتين صغيرتين: "شجيرة حناء وقمر[9]" و"جارات أبي موسى[10]". عندما أستمع لهذين المؤلفين، أحمد توفيق وإبراهيم الكوني، ألمح لديهما نفس الهم، ألا وهو تبليغ أشياء تختفي تحت أنظارهم والتي لن تتذكرها الأجيال القادمة. أحمد توفيق يخشى أن ينسى الشباب المغربي تاريخ المغرب الأسطوري في العصور الوسطى، في حين أن إبراهيم الكوني تستحوذ عليه فرضية فقدان عالم الطوارق لهويته. تحدثت كثيرا مع إبراهيم الكوني وهناك كلمة يرددها دائما على لسانه، إلى حد قد يصل الهوس وهي "الرسالة"، بمعنى "الشهادة" التي هي مسؤولية كل كاتب.
ماذا عن تجربتكم في ترجمة "مقامات الهمذاني" التي يصعب استيعابها على العرب أنفسهم؟
لقد خضت غمار هذه الترجمة كتحد. بالنسبة لنا نحن المترجمون المحترفون الذين يترجمون الكثير من الأدب المعاصر، يجب علينا العمل على لغتنا –الفرنسية فيما يخصني - لإثرائها باستمرار ولاختبارها. لما بدأت ثلاثية نجيب محفوظ أدركت أنني بحاجة لتعميق معرفتي بالعربية ولتعميق معرفتي بالفرنسية بشكل أكبر، لأنه عندما يتم الاعتراف لعمل ما على أنه أثر أو تحفة أدبية فيتحتم على الترجمة أن ترقى إلى نفس المستوى. الخبرة تتراكم مع توالي الأعمال، ولكن ذلك لا يغني عن إعادة تقييم ذاتية بمناسبة كل كتاب جديد. فيما يخصني، أشعر دائما بالقلق، ينتابني إحساس أنني لم أعد أعرف شيئا وأنه يجب إعادة بناء كل شيء من جديد.
أليس هذا تواضعا من طرفكم؟
لا، أؤكد لك أنه ليس تواضعا. ربما أبالغ عندما أقول إنني لا أعرف أي شيء في كل مرة، لأنه من الواضح أنني اكتسبت التجربة والخبرة. أدرك أنني أترجم بوثيرة أسرع وأسهل من ذي قبل. ولكن في كل مرة أشعر بخيفة وتوجس. هل سأتمكن من إنجاز العمل؟
مشروع ترجمة مقامات الهمذاني يعود لسنة 1994 بمناسبة مهرجان موسيقي معروف تحتضنه مدينة ستراسبورغ، اسمه "موزيكا"، حيث قام أحمد الصيّاد وهو مؤلف للموسيقى المعاصرة من أصل مغربي، بتأليف أوبرا انطلاقا من المقامات. وكما هو الحال بالنسبة لفن الأوبرا، كان يلزمه كتيّب. اختار أربع مقامات وطلب عدة اختبارات لترجمتها، فوقع الاختيار على ترجمتي. قمت إذن بترجمة تلك المقامات الأربعة (من الخمسين التي يحتويها الكتاب) خلال خمسة عشر يوما. تعلمون أن مقامات الهمذاني تتكون من النثر والسجع والشعر. فأخذت الرهان على نفسي بترجمة كل نوع باحترام صيغته الأصلية، أي أنني ترجمت السجع (وهو الغالب في النص) على شكل كلام موزون وترجمت الشعر على شكل أبيات. إلا أن العرض كان عملا موسيقيا وراقصا قبل كل شيء. على الرغم من تواجد ممثلين عرب يقرأون النص باللغة العربية، كانت الموسيقى المعاصرة التي ترافق الراقصين هي المكون الرئيسي. في نهاية المهرجان، أتاني أحمد الصياد وقال لي أنه يتوجب عليّ إتمام ترجمة المقامات كلها. إلا أنني بعد ذلك كرست وقتي حصريا لكتابة أطروحتي، ولكن نصيحة الصياد ظلت تخامرني طيلة تلك المدة. من جهة أخرى كانت تنتابني بعض المخاوف لأنه مضى وقت طويل منذ المحاولة الأولى. لقد كبرت سنا وكنت أخشى ألا أسترد نضارة وحيوية الشباب. هل سأستعيد نفس القريحة؟ لحسن الحظ، وبعون الله ومشيئته استرجعت كل ذلك بطريقة تدريجية. في الكثير من الأحيان، يسألني الناس كيف تمكنت من القيام بهذه الترجمة، فأجيبهم أنني لم أفعل ذلك وحدي، فينظرون إليّ بعلامات الدهشة والاستغراب ويقولون: "حقا؟ مع من قمتم بذلك إذن؟" فيكون ردي: "بمساعدة الله!"
كانت هنالك مشكلة إضافية ليست بالهينة: أين أجد ناشرا يقبل خوض هذه المغامرة معي؟ أود هنا أن أشيد بفاروق مردم بك الذي وافق على الفور وبالعمل التحريري الرائع الذي قامت به فرق "أكت-سود".
إذا ترجمت المقامات وفقا لشكلها الأصلي الدقيق، -السجع بالكلام الموزون والشعر بالأبيات -فذلك لأن الأبيات لها وضع خاص في النص. بطل القصة، أبو الفتح الإسكندري، متسول وصعلوك، يتوجب عليه إبهار جمهوره بجودة كلامه ليتمكن من جمع المال. فيحتاج إذن إلى مستوى لغوي أرفع لإثبات ثقافته الشعرية أو قدرته على ارتجال الأبيات. وبالتالي فإن الأبيات في هذا العمل لها "وظيفة" معينة بمعنى أنه يتم استغلالها في عملية "إخراج" العمل الدرامي.
واجهت نفس الإشكالية في مؤلفَيْن آخرين من الأدب الكلاسيكي قمت بترجمتهما: الكتاب المشهور "رسالة التوابع والزوابع[11]" لابن شهيد و "حلبة الكميت[12]" لمحمد النواجي. إذا تُرجمت مثل هذه الأعمال كليا بصيغة النثر، مهما بلغ هذا النثر من الجمال والرقي، فإن ذلك لا يمكّن من نقل روح العمل الأصلي، والأدهى من ذلك هو أنه يتم تدمير الهيكل السردي برمته.
سبق لعبد الفتاح كيليطو، وهو من الأكاديميين الكبار، أن صرح أنه من المستحيل ترجمة المقامة. فأردت إثبات العكس، وأظن أنني بكل تواضع وبعون الله ومشيئته قد نجحت في ذلك.
ما هي المشاريع التي تشتغلون عليها حاليا؟
في الوقت الراهن، أنا بصدد الانتهاء من كتاب "يا مريم" لسنان أنتون الذي تحدثت عنه من قبل. كما عُرض عليّ مشروع خاص ولكن لازلت أتردد في قبوله لأنه عمل ضخم (ولم أعد بعد في سن العشرين!). إنها ملحمة تتعلق بالحروب الصليبية (الإسلام ضد البيزنطيين) والتي في مجملها تسلط الضوء على شخصية امرأة. الملحمة عنوانها "سيرة الأميرة ذات الهمة" وهي معروفة من قبل بعض المتخصصين. الصعوبة الكبيرة فيما يتعلق بترجمة الأدب العربي الكلاسيكي هي أنها تستلزم القيام بمرحلة انتقائية أولية في مؤلفات غالبا ما تصل إلى عشرين مجلد. تكاد تكون مهمة الاختيار أصعب من الترجمة نفسها!
هناك أيضا مؤلف مغربي أقدره كثيرا وترجمت له كتابين. أعتبره روائيا رائعا له آفاق واعدة ويجب متابعة أعماله –وترجمتها - بعناية. بالإضافة إلى ذلك، وكما هو الشأن بالنسبة لكل الكتاب العرب الذين تشرفت بلقائهم، هو رجل في غاية اللطف. اسمه يوسف فاضل. عنوان الكتاب الأول "قط أبيض جميل يسير معي[13]" والثاني "طائر أزرق نادر يحلق معي[14]". يتحدث فيه عما يسمى في المغرب ب "سنوات الرصاص". يشير الجزء الثاني من هذه الثلاثية إلى محاولة الاغتيال الثانية التي ارتكبت ضد الملك الحسن الثاني (المعروفة بهجوم "الطيارين")، وهي قصة طيار شاب وجد نفسه متورطا في هذا الهجوم، ليس عن قناعة إيديولوجية، وإنما تم استدراجه من طرف رؤسائه. فاعتقل بسبب ذلك في سجن تزمامرت، بينما ظلت زوجته تبحث عنه. أود ترجمة الجزء الأخير من هذه الثلاثية المعنون "فرح".
ما هي انطباعاتكم عن النسخة الرابعة لمؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة؟
استفدت كثيرا من هذا المؤتمر لأنه كان شديد التنوع وتطرق لمواضيع شيقة. على سبيل المثال، تحدثت الليلة الماضية مع أكاديمي فلسطيني يشتغل على المصطلحات المعلوماتية وهذا مجال مثير للاهتمام. كما أن فريدريك لاغرانج قدم ورقة ممتازة حول كتاب "يا مريم" الذي أترجم حاليا، حيث كان من المبهر الاستماع إلى تحليله للهجات العراقية الخاصة بكل طائفة دينية ممثلة في الكتاب. بالإضافة إلى مختلف المداخلات الأخرى.
ما هي انطباعاتكم عن جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي؟
أولا، أجد أن القطريين في غاية الكرم. إحداث مثل هذه الجائزة (التي تحمل عنوانا ذي دلالة خاصة) يكشف عن رغبة مميزة في الانفتاح على العالم وهذا ملفت للنظر في السياق العام الحالي! أود اغتنام فرصة هذا الحوار لأعبر للأسرة الأميرية ودولة قطر والشعب القطري عن مدى تأثري بالترحيب الذي لقيته والامتنان العميق الذي أشعر به اتجاههم. كنت قد أعددت كلمة قصيرة أدرجت فيها مثلا فرنسيا شهيرا "لا أحد نبي في بلده" بمعنى أن فرنسا لم تعرني أبدا أي اهتمام (ولا للمترجمين الأدبيين الآخرين بصفة عامة، الذين هم في وضعية بائسة) وهاأنذا اليوم في قطر أتلقى شرفا يغمرني إلى أقصى حد. أشعر بسعادة كبيرة لأنه اعتراف بالعمل الذي قمت به لأكثر من ثلاثين عاما ويعطيني الانطباع بأن ما أنجزته كان مفيدا ومقدَّرا. أتمنى الاستمرار في الترجمة، على غرار سلفي "رينيه خوام" في دار النشر "فيبوس"، حتى "آخر رمق" في خدمة اللغة العربية وآدابها.
أجري هذا اللقاء يوم 15 ديسمبر 2017.
[1] La parole est d’or. Séances et stations d’un poète itinérant. Editions Sindbad, Actes-Sud, 2012.
[2] La darbuka : histoire, organologie, ethnomusicologie d'un instrument de percussion, Paris 10, 1997.
[3] Impasse des deux palais, éditions J.-C Lattès, 1992
[4] La Belle du Caire, éditions Denoël, 2000
[5] Les Mages, éditions Phébus, 2005
[6] L'oasis cachée, éditions Phébus, 2002
[7] Comme un appel du lointain, éditions M. de Maule, 2009
[8] Ange, qui es-tu ?, éditions Aden, 2010
[9] L'arbre et la lune, éditions Phébus, 2002
[10] Les voisines d'Abou Moussa, éditions M. de Maule, 2007
[11] L'Epitre des ombres et des trombes, éditions Sindbad/Actes-Sud, 2013
[12] La Joie du vin. L'Arène du cheval bai, éditions Phébus, 2006
[13] Un joli chat blanc marche derrière moi, Sindbad/Actes-Sud, 2014
[14] Un oiseau bleu et rare vole avec moi, éditions Actes-Sud, 2017
-
2023-01-08 مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة (9)
-
2022-02-28 يوميات جوردون في الخرطوم
-
2022-01-18 عن المثقف الإسلامي والأمراض العربية
-
2022-01-18 تهافت الفلاسفة