إيران والعالم العربي: لبنان نموذجاً

أولاً: في نقد بعض المفاهيم الخاطئة
ينبغي بداية أن نوضح ما يأتي:
1- ليست إيران هي الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي التي قامت على أساس مذهب وأسرة حاكمة (التشيع والصفوية) كما يخيل لمن يقرأ بعض الأبحاث المعاصرة؛ فقد كان الدين والعائلة في أساس قيام العديد من الدول العربية على مر التاريخ، منذ دول الغلبة والاستيلاء البويهية والسلجوقية وصولاً إلى الدولة العثمانية. ومنها الدولة السعودية ودولة عُمان أو دول عربية أخرى.
2- ليست إيران هي الدولة الوحيدة في العالم التي تنص في دستورها على دين/مذهب الدولة أو على دين/مذهب رئيس الدولة؛ فهذا موجود حتى في دول غربية كبرى مثل المملكة المتحدة البريطانية (الملكة والكنيسة) أو السويد والدنمارك والنروج وبلجيكا وكندا… إلخ.
3- ليست الطائفية بدعة جديدة أدخلها الاستعمار والصهيونية كما نقرأ في بعض التحليلات العربية المعاصرة. لعل الطائفية المذهبية في بلادنا بدأت منذ سقيفة بني ساعدة أو حرب الجمل أو صفين أو كربلاء أو زمن البويهيين، أو فتنة المعتزلة والحنابلة أو سياسة المأمون أو المتوكل..أو..أو.. ولكنها كمذهبية سياسية قبلية كانت موجودة منذ الجاهلية.
4- والانقسام العربي القديم إلى قيسية ويمنية كان وما يزال في أساس الكثير من الحزبيات ومن الصراعات العربية الداخلية والإقليمية، ولو أنه لم يأخذ حقه من الدراسات المعاصرة.
5- والأحزاب المسماة علمانية لم تكن في حياتها ديموقراطية أو تؤمن بالتعددية حتى تسمح لنفسها بالحديث عن الإسلاميين وكأنهم غول استبدادي رجعي. المجازر الكبرى في تاريخنا العربي والقمع الأشد والاستبداد الأدهى كانت صناعة علمانية بامتياز. من مصطفى كمال أتاتورك إلى محمد رضا شاه البهلوي إلى أمان الله خان الأفغاني، فإلى حزب البعث في سورية والعراق وإلى التجربة الناصرية، وصولاً إلى جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية ومذابح الرفاق الماركسيين وتصفياتهم الداخلية، فإلى الجماهيرية الليبية الاشتراكية العظمى وجنون عقيدها.
6- التدخل الخارجي في لبنان قديم قدم هذا البلد نفسه. الفرق الوحيد اليوم هو أن الشيعة الذين لم يكن لهم من ناصر خارجي يستندون إليه صار عندهم دولة شيعية تمتلك نفوذاً كبيراً وقوة لا يستهان بها وربما أسلحة نووية وهي تمارس سياسة التدخل على أكمل وجه. أما ما يجعل تدخلها اليوم يأخذ طابعاً مأساوياً فهو غياب الغرب، الحامي التقليدي للمسيحيين في لبنان، وانهيار النظام الإقليمي العربي الحامي التقليدي للمسلمين السنة والدروز (هذا قبل الربيع العربي).
7- لا يمكن الكلام عن صراع عربي- إيراني كما يحاول البعض أن يصوّر لنا الوضع. قطر كانت حليفة ايران حتى العام 2011. عُمان ما تزال حليفة إيران الى اليوم. شيعة الكويت تدعمهم إيران يتحالفون مع الأسرة الحاكمة ضد تحالف الإخوان والسلفيين والليبراليين. الإمارات العربية المتحدة والسعودية تعاديان الإخوان بشدة بعد وصولهم إلى السلطة في مصر وتونس والمغرب وتركيا.
ووسط هذا العداء العنيف لا مصلحة لإخوان مصر (أو تونس أو تركيا أو المغرب) بالحرب مع إيران، والأمثلة تطول. المهم أن نسجل تقلب السياسات والتحالفات بتقلب المصالح والاستراتيجيات والصراعات الأخرى بين الدول العربية نفسها.
8- لبنان مثال على انقلاب التحالفات؛ فحتى العام 2011 كانت السعودية وقطر وتركيا تدعم نظام الرئيس الأسد وسياسته في لبنان وتحمي بذلك صعود قوة حزب الله للاستيلاء على الحكم. بعد أزمة البحرين ودرع الجزيرة انقلبت تركيا وقطر والسعودية على سورية وصار مطلبها إسقاط نظام الأسد فانعكس ذلك بسقوط حكومة الوحدة الوطنية التي كان يرأسها سعد الحريري في بيروت وقيام حكومة جديدة مرتبطة إلى حد ما بإيران وسورية مع هامش حركة لتيار وسطي فيها.
9- نعم اليوم هناك مشكلة فعلية في العلاقات العربية الإيرانية تؤدي الى اصطفاف مذهبي خطير وإلى تدخلات أجنبية أخطر. ولا يجوز للإخوة الإيرانيين أن لا ينتبهوا إلى تصاعد الاصطفاف المذهبي من حولهم وإلى عزلتهم الكبيرة وإلى عداء المجتمع العربي لسياساتهم في بلادنا، وباعتقادي أن المسؤول الأول عن هذا الوضع هو إيران نفسها وسياساتها الخاطئة.
ثانياً: مقاربات تأسيسية حول إيران والعالم العربي
1- الدين والدولة في إيران، وعلاقة ذلك بالسياسة الخارجية
ثلاثة عوامل لعبت في تاريخ إيران، وما زالت تلعب، دوراً مؤثراً في تكوين رؤية إيران لنفسها ولدورها في العالم وفي محيطها المباشر:
أ- العامل الجغرافي الاستراتيجي للبلاد.
ب- المؤسسة البيروقراطية الموروثة من الإمبراطورية وتراثها.
ج- الدين، كحليف وحام للسلطة، أو كمعارض وخصم لها، فهو دائماً دعامة النظام القائم أو أداة الانقلاب عليه.
ولم تتخلص إيران من التفكير الإمبراطوري عن نفسها كدولة كبرى ذات مصالح حيوية في الشرق الأوسط (هي أطماع بالنسبة لجوارها). ولم يتحول هذا التفكير عن أن يكون مرتكز سياساتها واستراتيجياتها من زمن الشاهنشاهات الى زمن ولاية الفقيه.
وما يهمنا هنا هو الإشارة إلى علاقة الدولة بالدين، وعلاقة إيران بالتشيع، إذ إنه على ضوء هاتين العلاقتين يمكن سبر أغوار علاقة إيران بلبنان.
أ- “في العهد الساساني الزرادشتي كان للروحانيين التفوق الكامل في جميع الشوؤن الاجتماعية، وكانوا ينقسمون إلى ثلاث فرق: الأولى الموابذة، ورئيسهم موبذان موبذ، أو موبذ موبذان، كان هو الشخص الأول الروحاني للدولة وله صلاحيات غير محدودة..” .
ب- “اختلفت تجربة الدولة الصفوية في مرحلتها الأولى عن التجارب السياسية الشيعية السابقة كالدولة البويهية والسربدارية والمرعشية والمشعشعية، في أن هذه التجارب كانت دولا سياسية بحتة، أي غير أيديولوجية، بينما حاولت الدولة الصفوية تقديم نفسها كدولة عقائدية ومرتبطة بالأئمة الاثني عشر بصورة روحية غيبية. وقد طوّر الشاه إسماعيل أو تطور على يديه فكر سياسي جديد حاول الالتفاف على فكر التقية والانتظار فادعى ذات يوم أنه أخذ إجازة من صاحب الزمان، المهدي المنتظر..وأنه شاهد الإمام عليًّا (الذي) حثه على القيام وإعلان الدولة الشيعية” .
ج- هناك رواية/أسطورة نسجها الإيرانيون في العهد الصفوي وتصدى لدحضها وتكذيبها الكثير من علماء الدين وعلى رأسهم مرتضى مطهري وعلي شريعتي: تقول الرواية إن عمر بن الخطاب عند فتحه لبلاد فارس سبى نساء الشاه يزدجرد آخر ملوك الساسانيين وجاء بهن الى المدينة. وإن الإمام عليًّا ثار على هذا الأمر وقام بتزويج شهربانو ابنة يزدجرد من ابنه الحسين، وإن شهربانو هذه هي أم الإمام الرابع علي بن الحسين (زين العابدين) ..
د- اعتمد الصفويون على فكرة الحق الإلهي للملوك الإيرانيين قبل الإسلام، وذلك بوراثة هذا الحق باعتبارهم “سادة” وأن جدهم الحسين بن علي. فاجتمع الحقان: حق أهل البيت في الخلافة (حسب النظرية الشيعية الإمامية)،وحق الملوك الإيرانيين فيهم، بالإضافة إلى نيابة الإمام المهدي .
ه- “استهوت التجربة الصفوية، في بدايتها، الشيعة المضطهدين في العراق وجبل عامل(لبنان) والبحرين، وذهب العلماء بالخصوص ليدعموا تأسيس الدولة الشيعية الوليدة” .
ز- وقد استعان الصفويون بعلماء جبل عامل والبحرين لتشييع إيران: وكان أسوأ عمل قام به الصفويون هو إجبار الناس على التحول بالقوة إلى المذهب الاثني عشري، الأمر الذي أدى الى ردة فعل عنيفة من قبل الدولة العثمانية وإبادة الكثير من الشيعة هنا وهناك والتسبب في تمزيق الوحدة الإسلامية وزرع الأحقاد الطائفية بين الشيعة والسنة منذ ذلك الحين إلى اليوم” .
يشير ما سبق الى حقيقة الصلة الثقافية الدينية بين إيران ولبنان، وإلى دور الدين ورجال الدين في إدارة الدولة، لا بل إلى صيغة لنظام سياسي ليست بعيدة عن صيغة البابوية القيصرية حيث القائد الديني هو في الآن نفسه قائد الدولة، أو القائد السياسي هو في الآن نفسه الزعيم الديني، ولهذا الامر أهمية كبرى لفهم العلاقات اللبنانية- الإيرانية.
2- ولاية الفقيه العامة المطلقة أو المركزية الإسلامية
لم يكتب أحد من فقهاء الشيعة على مر التاريخ يدعو إلى الولاية العامة والمطلقة للفقيه باستثناء ما ورد عند الشيخ أحمد بن محمد مهدي النراقي (ت. 1245ه.) الذي أخذ عنه الإمام الخميني القول بأن “كل ما كان للنبي والإمام فيه الولاية، وكان لهم، فللفقيه أيضاً ذلك، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما”..”إن الفقهاء هم الحكام في زمن الغيبة والنواب عن الأئمة”..”إن ما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر”..”الفقهاء أوصياء للرسول من بعد الأئمة، وفي حال غيابهم، كُلِّفوا بجميع ما كُلِّف الأئمة القيام به”..”إن للفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمة مما يرجع إلى الحكومة والسياسة”..”إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمر المجتمع ما كان يليه النبي منهم ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا…ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول وأمير المؤمنين على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة” .
وقد استند الخميني (كما النراقي من قبله) إلى روايتين لا غير من المروي عن أئمة الشيعة: الأولى وتسمى مقبولة عمر بن حنظلة، والثانية تسمى مشهورة أبي خديجة.
رواية عمر بن حنظلة:
“سألت أبا عبد الله عليه السلام (الإمام جعفر الصادق) عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان، وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: “من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً، وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ … قلت: فكيف يصنعان؟ قال: “ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، وينظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله، وعلينا رد، والراد علينا راد على الله وهو على حد الشرك بالله”. قال: فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، فاختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟. فقال: ” الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر”..
مشهورة أبي خديجة
روى الشيخ الطُّوسيّ هذه الرِّواية عن أبي خديجة أحد أصحاب الإمام جعفر الصَّادق ـ وقد استدلّ بها الخميني لإثبات ولاية الفقيه العامَّة:
“قال: بعثني أبو عبد الله عليه السلام إلى أصحابنا، فقال: قل لهم: إيّاكم، إذا وقعت بينكم خصومة، أو تدارٍ في شيء من الأخذ والعطاء، أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق. اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا. فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر” .
فالاستدلال بهذه الرِّواية على الولاية العامَّة للفقيه قريب جداً من الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة، لأنّه مُنع الرجوع فيها إلى الفسّاق وقضاة الجور في المنازعات الحقوقيَّة (تدارٍ) وكذلك الرُّجوع إلى الحاكم والسلطان، وأكّدت بالمقابل الرجوع إلى الفقيه العادل.
وقد قال الإمام الخمينيّ في تقرير استدلاله بهذه الرِّواية: “المراد من “التَّداري في شيء” ، الوارد في الرِّواية، هو الاختلاف الحقوقيّ، أي لا ترجعوا في النِّزاعات الحقوقيَّة والقضايا الجزائيَّة إلى هؤلاء الفسّاق. ثمّ قال عليه السلام (جعفر الصادق) بعد ذلك: “فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً”، يتّضح أنّ المقصود من “الفسّاق” هم القضاة المعيّنون من قبل السلاطين وأُمراء ذلك الوقت، والحكَّام غير الشرعيين. ثمّ قال عليه السلام في ذيل الرِّواية: “وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر”، أي لا ترجعوا في الأُمور ذات العلاقة بالسلطة التنفيذيَّة إلى هؤلاء الحكَّام غير الشرعيِّين. ولئن كان “السُّلطان الجائر” هو كلّ حاكم جائر وغير شرعيّ، بشكل عامّ، ويشمل جميع الحكَّام غير الإسلاميين، والسُّلطات الثلاث القضائيَّة والتشريعيَّة والتنفيذيَّة جميعاً ـ وبالالتفات إلى أنّه قد نهى قبل ذلك عن الرُّجوع إلى قضاة الجور ـ فإنَّه يتّضح أنّ المراد بهذا النَّهي فريق آخر، وهو السلطة التنفيذيَّة. والجملة الأخيرة، بالطبع، ليست تكراراً للكلام السابق، أي النَّهي عن الرُّجوع إلى الفسّاق، وذلك لأنّه قد نهى أولاً عن الرُّجوع إلى القاضي الفاسق في الأُمور المتعلِّقة به من التحقيق، وإقامة البيِّنة، وأمثال ذلك. وأوضح وظيفة اتّباع القاضي الّذي عيّنه. ثمّ منع بعد ذلك من الرُّجوع إلى السلاطين أيضاً” .
وبحسب من رفضوا ولاية الفقيه العامة والمطلقة فإن الحديثين لا يشيران أبداً إلى الولاية السياسية أو الحكم المطلق للفقهاء وإنما إلى مرجعية فقهاء الشيعة من أصحاب العلم والتقوى والعدالة والكفاءة للحكم بين المتخاصمين وللفتيا بين الناس. وهنا فرق بين المرجعية الدينية والولاية العامة. ذلك أن أئمة أهل البيت شكلوا المرجعية الدينية للشيعة في معرفة الأحكام الشرعية وتطبيقها. وفي زمن غيبة الإمام المهدي الممتدة إلى اليوم صار الفقهاء العلماء العدول الأكفاء هم المراجع؛ تأكيداً للحديث المروي عن الأئمة : “من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه” . وهي الرواية الشهيرة التي يتخذها جميع علماء الشيعة سنداً لتقرير مسألة ضرورة وجود مرجع للتقليد في أمور الدين وتقرير ما ينبغي أن يكون عليه مرجع التقليد من علم وتقوى وعدل، أما الولي الفقيه فهو الذي بيده إدارة المجتمع الإسلامي والدولة ويشمل ذلك الأحكام القضائية والتشريعية والجهاد والحرب والصلح وحفظ النظام. والولي الفقيه هو مصدر السلطات كلها من تشريعية وقضائية وتنفيذية. وولايته تشمل كل المسلمين في العالم حتى خارج حدود دولته التي يقيمها وله أن يعين وكلاء وولاة عنه في سائر البلدان حتى تلك التي لا تخضع لنظام ولاية الفقيه، وهؤلاء لا يجوز مخالفة أوامرهم ووجبت الطاعة والتسليم لهم.
تقوم نظرية الولاية العامة للفقيه إذن على أن الدليل (العقلي والشرعي) قد دل على أن الإمام المعصوم (أي المهدي) قد نصب الفقيه الجامع للشرائط (أي الذي يجمع في شخصه شروط العلم الفقهي والعدالة والكفاءة في الإدارة، إلى جانب التصدي والبروز للقيادة) وذلك في عصر غيبته الكبرى (أي غيبة الإمام المهدي التي لا يعرف متى تنتهي إلا من حيث أنه سيرجع ليملأ الدنيا قسطاً وعدلاً بعد أن امتلأت ظلماً وجورا). وهو (أي المهدي) قد نصب هذا الفقيه ولياً عاماً، ولاية تصرّف على المسلمين. وقد ثبت للفقيه بمقتضى هذه الولاية العامة (أو السلطة المطلقة) جميع ما ثبت للإمام المعصوم وللنبي نفسه؛ فالولي الفقيه الجامع للشرائط هو “الحاكم الإسلامي المطلق” (الإمام، ولي أمر المسلمين) المعيّن بالنصب العام حاكماً على المسلمين، أي إنه ليس فقيهاً متشرعاً فقط، أو مرجعاً للتقليد، بل هو حاكم عام مطلق الولاية له صلاحيات الإمام والرسول.
3- إيران بين القومية الشوفينية والإسلامية المركزية:
قدّم الشاه البهلوي تصوّراً للإيرانية كقومية شوفينية آرية لا يلغي فقط الإسلام أو يغفله من مشهد أربعة عشر قرناً من التاريخ بل يجعل القومية الإيرانية أيديولوجية توسع وهيمنة وتعصب حيال الجوار الجغرافي والثقافي والإثني. وبالمقابل قدمت الخمينية تصوراً للإسلامية لا يلغي فقط الخصوصيات الإثنية والقومية وعناصر التعددية والاختلاف في حياة الجماعات والشعوب، وإنما يشرعن ويبرر سياسات إقليمية ومركزية حيال الجوار، واستبدال وإلغاء إرادة الآخر واختراق المجتمعات الأخرى المختلفة، كان ذلك أولاً تحت عنوان تصدير الثورة، ثم صار باسم الدفاع عن دولة الإسلام أو الدولة-المركز أو الدولة-القاعدة وتحول مؤخراً إلى مقولة الدولة الممهدة لمجيء المهدي…وفي نفس السياق تحولت صيغة ولاية الفقيه الحاكمة في إيران إلى مركز منتج لخطاب سياسي-ديني تخترقه وتؤثر فيه-عن قصد-اعتبارات الدولة الإقليمية ومصالح الجغرافية الاقتصادية والاستراتيجية .
وحين حافظت إيران الإسلامية على النزعة القومية الفارسية الآرية، وأضافت اليها القداسة الإلهية (ولاية الفقيه)، ومزجت بين الأيديولوجية الإسلامية والفارسية، فإنها وحدّت بذلك الحقل الجيواستراتيجي والأمني، ووحدّت من خلاله الصورة الجماعية للدولة/الأمة تجاه الآخر.
“إن الروح التي دفعت القوات الإيرانية للصمود كانت القومية أكثر منها الدين…إن هذه الحرب (مع العراق) أصبحت بالنسبة للإيرانيين حرباً وطنية، تماماً مثلما حارب الروس من أجل روسيا الأم وليس من أجل الشيوعية.”
وفي حين استخدت إيران الإسلامية تلك القومية الفارسية الآرية فإنها لم تترك مناسبة إلا وهاجمت فيها القومية العربية وقالت عنها إنها صهيونية ورجعية وإمبريالية وممزقة للأمة، كما لم يتردد المسوؤلون الإيرانيون الإسلاميون بتشبيه القومية العربية بالصهيونية. وقد يكون في الأمر رد فعل على القومية البعثية التي دأبت على نعت الشيعة بالفرس والإيرانيين بالشعوبيين والمجوس.
4- سياسات إيران المعاصرة قبل الثورة الاسلامية 1979:
إيران هي بلا شك قوة إقليمية رئيسية في منطقة الشرق الأوسط، وذلك بفضل قدراتها الاقتصادية والعسكرية والبشرية الكبيرة، إلى جانب إرثها الحضاري والإمبراطوري، وقد نجحت، خلال مراحل تاريخية مختلفة، في أن تشارك من موقع قوي في صياغة الترتيبات الإقليمية للشرق الأوسط. وهذا الدور الإقليمي الإيراني، تصاعد في أواخر عهد الشاه محمد رضا بهلوي وعرف زخماً جديداً في عهد الثورة الإسلامية.
في العام 1941 خلع البريطانيون الشاه رضا بهلوي وجاءوا بابنه الأكبر محمد رضا خلفاً له وذلك لمحاولة الوالد التقرب من الألمان إبان الحرب العالمية الثانية، رسم شاه إيران البهلوي موقع ودور إيران في العالم بعد الحرب العالمية الثانية من خلال مجموعة سياسات يمكن تلخيصها بأنها سياسة اعتماد وتحالف مطلق مع الغرب في مواجهة الخطر الروسي (العدو)، وتحويل إيران الى أحد المراكز الرئيسية للقواعد الأمريكية وللأحلاف الغربية(حلف بغداد كمثال). وقد صار التحالف مع أمريكا السمة الغالبة على نظام إيران في الستينيات مع بداية انهيار النفوذ البريطاني في الخليج وحلول واشنطن محل لندن في المنطقة. وإضافة إلى حلف بغداد الذي سقط مع الثورة العراقية والثورات في لبنان والأردن (1958)، انضمت إيران الى حلف السنتو (باكستان، إيران، تركيا، بريطانيا، أمريكا) كتحالف غربي- إسلامي في وجه الاتحاد السوفياتي، كما عقدت إيران اتفاقية التعاون الإقليمي للتنميةRCD مع تركيا وباكستان.
وفي مرحلة لاحقة، اعتمد الغرب على إيران في منطقة الخليج تحديداً حيث شاركت في قمع ثورة ظفار وتحولت إلى شرطي الخليج.
ومع أن إيران صارت ابتداء من عقد السبعينيات أحد أهم حلفاء الغرب، ولعبت دورا مهما في حماية المصالح الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً، وشكلت الركيزة العسكرية فيما يسمى “مبدأ نيكسون” مع الركيزة الاقتصادية التي مثلتها السعودية، إلا أنها لم تتخل عن طموحها لتكون قوة إقليمية ذات مصالح وسياسات خاصة بها في ملفات المنطقة.
فعلى سبيل المثال فإنه لم يكن لإيران أي سياسة خاصة بها حيال الصراع العربي-الإسرائيلي، وذلك حتى مطلع السبعينيات حيث نشأ تحالف أو علاقة خاصة مع مصر السادات خصوصاً منذ مؤتمر الأوبيك في شباط/فبراير الذي صدر عنه اتفاق طهران (تحديد أسعار البترول في السوق العالمي)، ثم مؤتمر الأوبيك في 15 أيلول/سبتمبر 1973 الذي قرر بدء التفاوض لزيادة أسعار البترول ووضع حد لدعم إسرائيل. وفي الأعوام 73-76 تطورت تلك العلاقات وذلك من خلال حرب أكتوبر أولاً ثم وقوف شاه إيران والأوبيك مع قرار الدول العربية البترولية قطع النفط عن الغرب. ثم بعد ذلك إنجاز اتفاقية التسوية مع صدام حسين 1975 (أثناء قمة منظمة الأوبيك في الجزائر). إن دور إيران داخل منظمة الأوبيك وفي حرب أكتوبر 1973 وعملية قطع النفط عن الغرب، قرّبها من الدول العربية المعتدلة، في مواجهة تصاعد تيارات التطرف واليسار داخل إيران والدول العربية مع تصاعد موجة الثورة الفلسطينية. فقد ارتبطت المجموعات الإيرانية الثورية من يسارية وإسلامية بالثورة الفلسطينية بشكل واضح، وارتبط الشاه بحلف مع مصر ودول الخليج جعله يدعمها في حرب أكتوبر كما في سياسة النفط، الأمر الذي جعله يحظى بصداقة ودعم الصين الشعبية التي رأت فيه في تلك المرحلة قيادة عالمثالثية مستقلة تنتمي إلى نظرية الصين عن العوالم الثلاثة، وبرأيي أن الشاه بدأ منذ مطلع السبعينيات يستشعر إمكانية استعادة الدور الكبير لإيران في المنطقة، الأمر الذي يفسر احتفالاته الامبراطورية وخطواته في الأوبيك ومع العرب المعتدلين .
وفي العام 1975 عقد الشاه أضخم اتفاقية من نوعها بين بلدين وهي الاتفاقية الإيرانية-الأمريكية (بقيمة 15 مليار دولار). والحقيقة أن أمريكا كانت تحتاج الدور الإيراني في المنطقة مع تصاعد الهجوم السوفياتي العالمي وتحقيقه انتصارات كبيرة من الهند الصينية إلى أفريقيا مروراً بجمهورية عدن الشيوعية وبحرب لبنان الأهلية، ويمكن القول أن سياسة إيران الخارجية تجاه الشرق الأوسط بدأت ترتسم في السبعينيات على أنها سياسة تحالف مع مصر والخليج من جهة، ومع إسرائيل وتركيا وباكستان من جهة ثانية، ولكن ضمن رؤية مستقلة عن التبعية الكاملة للسياسة الأمريكية. لقد كانت مرحلة السبعينيات فعلاً مرحلة محاولات استقلالية للدول العربية مع الرئيس السادات والملك فيصل، ومحاولة إيران أن تكون دولة كبرى في المنطقة؛ ذلك أن تدفق أموال البترول سمح بنهوض اقتصادي وعسكري لهذه الدول وبشعورها بالقدرة على التعامل شبه الندّي مع الغرب وخصوصاً أمريكا، وقد تزامن ذلك (وليس بالصدفة) مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان وتوقيع اتفاقية الجزائر مع العراق واندفاع السادات في اتجاه أمريكا والغرب بعد حرب أكتوبر(اتفاقيات فصل القوات ثم زيارة القدس وصولاً الى كامب دايفيد)، وانتهت تلك المرحلة باغتيال الملك فيصل واندلاع الصراعات اليمنية في الشمال والجنوب وبينهما، وبتفاقم الحرب الأهلية اللبنانية وتدخل سورية بدعم أمريكي في لبنان… إلخ .. مما ليس المجال هنا لاستعراضه.
المهم كخلاصة هنا أن الدور الإقليمي القوي لإيران بدأ في زمن الشاه وبالتحديد في السبعينيات من القرن العشرين، وأن إيران الإسلامية لم ترث هذا الدور فقط وإنما أعطته مشروعية إسلامية- شيعية دون أن ننسى هنا أن المعارضين للشاه من كل الاتجاهات الماركسية والوطنية والإسلامية لجأوا إلى قواعد الثورة الفلسطينية في لبنان منذ العام 1970 وكان لهم دور كبير في تأسيس الوعي الشيعي اللبناني الجديد الذي صار مرتبطاً لاحقاً بإيران.
5- العربية الإيرانية في التاريخ المعاصر
تشكلت الدولة القومية الإيرانية (الدولة الصفوية مطلع القرن السادس عشر) على حدود الدم والعداوة مع جارتها العثمانية التركية. وكان العراق هو الملعب المميز وساحة الحروب التي أججت المشاعر القومية المتعادية وكل الإحن والمشاعر والعداوات المذهبية التاريخية ما بين سنة وشيعة. ولم يؤد انهيار الدولة العثمانية وتقاسم المناطق التي كانت تحت سلطتها ما بين قوى الاستعمار الأوروبي، ولا تصدي علماء ومجاهدي العراق من الشيعة العرب للقوات البريطانية عام 1915 (حين كانت النخب العربية تتبارى في خدمة لورنس وكوكس وفيلبي) ولا ثورة العشرين التاريخية في النجف وكربلاء والبصرة، ولا تاريخ الممانعة الشيعية العراقية والإيرانية واللبنانية للأحلاف الغربية ولسياسات الدول الاستعمارية ووقوفهم مع جمال عبد الناصر ومع ثورة الجزائر ومع الثورة الفلسطينية، ومع كل حركة تحرر في العالم العربي، لم يؤد ذلك كله إلى أي تغيير في النظرة إلى إيران وإلى الشيعة العرب.
في الخمسينيات من القرن الماضي تعاونت الأسرة البهلوية الإيرانية مع الدولة القومية الأتاتوركية على تصعيد وتوتير المشاعر القومية لحشد التعبئة الجماهيرية وراء سلطاتها المستبدة، غير أن الأمر الخطير أو التحول الذي حدث في ذلك الوقت تمثل في اندراج البلدين المتعاديين في سياق حلف أكيد ومتين مع الغرب وهو حلف وقف ضد أماني العرب القومية والتحررية خصوصاً بعد نكبة فلسطين في عام 1948. ولم تكتف إيران الشاه وتركيا الأتاتوركية بالوقوف مع الغرب سياسياً وحضارياً وإنما وسعتا نطاق التحالف والتعاون إلى المجال الأمني العسكري مما كان له أثر بليغ على مشاريع النهوض والوحدة العربية في مرحلة الخمسينيات والستنييات وحتى نكسة الخامس من حزيران 1967. وقد لعبت إيران دوراً بالغ الخطورة في دعم إسرائيل خصوصاً بعد اسقاط حكومة الرئيس محمد مصدق بانقلاب عسكري (1953) اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً بأنها سهلته ومولته وشاركت في إنجاحه . وأول ما استخدمه معارضو الشاه من حجج وتبريرات لخيارهم الكفاحي المسلح كان قضية فلسطين، لا بل إن أول تنظيم طلابي كفاحي معارض للشاه لوحق واعتقل وحوكم كان تنظيماً لدعم الثورة الفلسطينية بعد معركة الكرامة (آذار 1968) وعرفت محاكمة أعضائه يومها باسم “قضية فلسطين” و”مجموعة فلسطين”. ولم تكن العلاقات العربية- الإيرانية لتسوء فقط بسبب دعم الشاه لإسرائيل ووقوفه مع أمريكا والغرب عموماً في وجه بعض العرب المتحالفين مع السوفيات (مصر وسورية والعراق أو ما كان يسمى بالأنظمة التقدمية)، وإنما هي ساءت حتى مع الدول العربية التي لم تكن تنتمي إلى الحلف السوفياتي خصوصاً في منطقة الخليج، حيث كان للشاه ولإيران أطماع؛ فإيران الشاه لم تكن فقط مخلب قط أمريكي في المنطقة بل هي كانت قوة إقليمية كبرى تحاول أن تكون لاعباً أساسياً وهذا ما برهنت عليه في التصدي الكبير للثورة التي عرفت باسم ثورة ظفار في سلطنة عمان (أعوام 1970 -1973) وفي احتلالها للجزر الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) والتي ما زالت إلى اليوم تحت الاحتلال الإيراني. وليس الخلاف على تسمية الخليج (عربي أم فارسي) بالخلاف اللغوي أو الجغرافي بقدر ما يعكس إرادة الهيمنة الإيرانية كقوة إقليمية كبرى في الخليج والشرق الأوسط. وبعد انتصار الثورة الإسلامية استمرت القطيعة مع العرب وذلك بسبب شعار وممارسة تصدير الثورة. فلم تكن دول الخليج هي وحدها المعنية بالشعار إذ هو امتد ليشمل دول المغرب العربي ومصر وحتى السودان وقد شهدت حقبة الثمانينيات من القرن العشرين ظاهرة تصدير الثورة الإيرانية تحت عناوين ومسميات شتى. وعرفت دول الخليج نشوء منظمات “للثورة الإسلامية” كانت شيعية الهوية وإيرانية الهوى. وحصلت نتيجة ذلك توترات وصراعات (مسلحة حتى) في الكويت والبحرين والسعودية أثرّت كثيراً على وضع تلك البلدان من جهة وعلى العلاقات مع إيران من جهة ثانية. وامتد تيار الثورة المصدرة إلى مصر وجماعات الجهاد، وإلى المغرب العربي، وهو لم يخل من ممارسات “تشيّع” لاقت استهجاناً حتى لدى كبار علماء الشيعة مثل المرحوم الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي أفتى يومها بحرمة ما تقوم به بعض الأوساط الإيرانية في بلدان عربية عديدة من تبشير وتشييع للناس تحت عنوان “اختيار مذهب أهل البيت” أو تغيير لمذاهب الناس من خلال السياسة والعمل السياسي الثوري.
وبرغم وقوف إيران مع شعب فلسطين ومع المقاومة في لبنان فقد أدت الحرب الإيرانية- العراقية وما رافقها من توترات الى المزيد من تعميق الشروخ في العلاقات العربية – الإيرانية وهو أمر تمفصل أيضاً على انقسامات مذهبية لم تخل من خطورة خصوصاً في بعض الدول العربية كالعراق نفسه والكويت والسعودية والبحرين.
وحمل عام 1989 بداية التغيير في تلك الأوضاع الصراعية. فقد وافق الإمام الخميني على وقف إطلاق النار مع العراق (تموز 1988) (قائلاً إنه يشرب السم مكرهاً) وجرى انتقال دراماتيكي للسلطة بعد ازاحة نائب الإمام وخليفته المعين الشيخ حسين منتظري وتهميش وعزل أنصاره ، وبعد تصفية حليفه مهدي هاشمي وإعدامه وسجن العشرات من جماعته. وجاء الى السلطة تحالف جديد واسطة عقده كان ابن الإمام الخميني نفسه (السيد أحمد) وعرابه رئيس الجمهورية الجديد الشيخ هاشمي رفسنجاني، وصعد فيه معهما ثم تجاوزهما القائد والمرشد الجديد للثورة الرئيس السابق للجمهورية السيد علي خامنئي.
وقد جرى تعديل الدستور بعد شهر على وفاة الإمام الخميني (توفي في 3 حزيران 1989) وجرى بعد ذلك تصفية معاقل ما كان يسمى بخط الإمام: إسقاط حكومة السيد مير حسين موسوي وإلغاء منصب رئيس الوزراء – إقالة السيد محتشمي ومنعه هو وبهزاد نبوي وغيرهما من الترشح لانتخابات مجلس الشورى عام 1992 – استقالة السيد خاتمي من وزارة الثقافة . وصعد نجم الثلاثي أحمد الخميني- هاشمي رفسنجاني – علي خامنئي كقوى معارضة لتيار تصدير الثورة وللمرحلة الخمينية وحملوا لواء تأييد تطبيع العلاقات مع أمريكا والغرب ومع العرب المحسوبين على أمريكا.. وبدأت معهم عملية تصفية آخر ما تبقى من التركة الخمينية الثورية. وقاد الشيخ رفسنجاني (رئيس الجمهورية بين 1979 و1997) هذا الانفتاح الإصلاحي اليميني في مواجهة التيار اليساري (حسين منتظري- علي أكبر محتشمي- مهدي كروبي- مير حسين موسوي- عبد الله نوري- محمد موسوي خوئيني ها- هادي خامنئي- غلام حسين كرباسشي- إبراهيم أصغر زاده- محسن ميردامادي- سعيد حجاريان- عباس عابدي- بهزاد نبوي).
خلال رئاسة هاشمي رافسنجاني حاول النظام إعادة البناء لعلاج الاقتصاد المنهار بسبب الحرب العراقية –الايرانية 01980-1988) والزيادة السكانية والعزلة الدولية نتيجة للسياسة الخارجية المتطرفة وسياسة تصدير الثورة والعداء لما هو غير إسلامي.. في بداية ما سمي بالجمهورية الثانية (1989-1997) حدث تطور على مستوى حركة النظام الدولي بانهيار ما كان يسمى بالكتلة الشيوعية بزعامة الاتحاد السوفيتي مما كان له أثر اقتصادي داخلي في إيران التي اعتمدت الثورة عند بدايتها أسلوب الاقتصاد الموجه والأخذ بمنهجية التخطيط لتفعيل برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
بانهيار الكتلة الشيوعية انهارت معها مدرسة الفكر الاشتراكي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبدا أن الحل للمشكلة الاقتصادية في إيران لا ينفك عن حل معضلة المشكلة السياسية فيها. فأخذ تيار الإصلاح الليبرالي يتنامى في مواجهة مقاومة شديدة من قبل التيار الثوري الذي شعر بما كان يسميه بإرهاصات الثورة المضادة.
لم ينفتح النظام في عهد رافسنجاني على الداخل فحسب بل على الخارج أيضاً باتباع سياسة خارجية أكثر براغماتية بعد تخلي نظام الثورة عن القوالب الأيديولوجية الدينية الجامدة التي كانت تتحكم في حركة السياسة الخارجية لجمهورية إيران الإسلامية وفي مقدمتها شعار تصدير الثورة. وتحسنت علاقات إيران مع جيرانها خاصة دول الخليج العربية في هذه الفترة وكذلك مع الكثير من الدول الأوروبية التي وصلت العلاقات معها في بداية الثورة إلى مرحلة قطع العلاقات. إلا أن العداء للولايات المتحدة لم ينته وإن كانت لهجة التطرف تجاه الولايات المتحدة في تلك الفترة قاصرة على المنتمين للتيار الثوري المتشدد (أنصار خط الامام) دون أن ينعكس في الخطاب السياسي الرسمي لإدارة الرئيس رافسنجاني بصورة واضحة.. إلا أن ذلك لم يحل دون تطور حركة إصلاحية ثورية من داخل رحم فعاليات النظام الدينية بدأها رافسنجاني.. وتطورت بعد ذلك داخل حركة اليسار الخميني التي فقدت السلطة إذ تطور هذا التيار صوب الاصلاح الديموقراطي وترسخ هذا التطور في عهد الرئيس محمد خاتمي…
سمح استقرار الوضع الداخلي بعد عام 1992 (بعد عاصفة الخليج والحرب العالمية لتحرير الكويت وانقلاب التحالفات العربية والإقليمية والدولية وسقوط الاتحاد السوفياتي وكتلته) بإعادة طرح قضية استقرار وتحسن العلاقات العربية الإيرانية؛ فقد توحد العرب والإيرانيون في الجبهة العالمية للحرب ضد العراق، وانهار الصرح الأيديولوجي والعسكري للشيوعية العالمية، وسقط في إيران شعار الثورة الدائمة أو المستمرة ومشاريع تصدير الثورة، مع انكفاء الإيرانيين على أوضاعهم الداخلية بعد حرب مدمرة وحصار دولي قاس، ورغم ذلك ظل في الجو شيء ما يعكر أو يعطل العلاقات العربية الإيرانية.
- فقد كان هناك الحذر المتبادل بعد عقود وعقود من الصراعات والتدخلات والتجارب التي ولدت انعدام الثقة.
- وكان هناك من جهة أخرى الموقف الأمريكي الذي لا يسمح للعرب بالمصالحة التامة مع إيران بل يريد ابقاء ورقة العلاقات المتوترة أو المقطوعة كأداة ضغط على إيران لابتزاز المزيد من التنازلات.
- وكان هناك الوضع الإيراني الداخلي حيث يحتدم الصراع على السلطة عند كل منعطف إقليمي- دولي جديد شبيه بمنعطف 1988- 1989.
6- فاصلة ربيع السيد خاتمي
جاءت رئاسة السيد محمد خاتمي (1997- 2005) لتعيد إلى الواجهة التيار اليساري القديم (خط الإمام) ولكن بثوب جديد يحمل عنوان الإصلاح والتجديد وشعارات الحرية والديموقراطية.
وكان طبيعياً أن يطرح التيار الإصلاحي الجديد قضية العلاقات مع العرب ومع الغرب وأمريكا من ضمن محاولته إعادة تحديد موقع ودور إيران في المرحلة الجديدة، ونظراً للعلاقة الأكيدة والجدلية بين تطورات الخارج والداخل الإيراني. ولكن مرحلة أحمدي نجاد-خامنئي (2005-2011) قد أنهت ذلك الانفتاح الذي كان عرابه الأول الشيخ هاشمي رفسنجاني منذ العام 1989، والذي تطور مع السيد خاتمي إلى سياسة واقعية وحوارية حضارية، وها نحن نشهد جولة جديدة من الصراع الداخلي في إيران مرتبطة بما يجري في المنطقة والعالم ونشهد اصطفافاً جديداً للقوى الإيرانية حيث إن عنوان المرحلة هو الديموقراطية والعلاقات مع أمريكا والغرب والعلاقة مع العرب بعد الربيع الثوري.
إن احتدام الصراع على السلطة في إيران في ظل الوضع الدولي الجديد الناجم عن احتلال أمريكا لأفغانستان والعراق(على حدود إيران) وعن التحول المهم في الجارة تركيا، واشتداد الضغوط على الحليف سورية، ومأزق التسوية في فلسطين، كل ذلك أدى إلى انتقال التيار الإصلاحي اليميني الانفتاحي لحلف خامنئي – جنتي – شاهرودي إلى صف المعارض لانفتاح إيران على العرب (مصر والخليج) “الرجعيين”، والمعادي لأي انفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية. فكانت شعارات ما أصبح يعرف باسم الجناح المحافظ هي العودة إلى الخط الثوري وإلى العداء لأمريكا و”عربها” في حين حمل الجناح الإصلاحي (اليساري الثوري سابقاً) شعارات الانفتاح وتطبيع العلاقات مع العالم ومع المحيط العربي خصوصاً.
غير أن ما منع تحقيق هذا الطموح الإصلاحي الداخلي والتقاربي مع العرب والحواري مع العالم أزمة مركبة تتمثل في انعدام الرؤية والتوزان وفي طغيان المصالح الخاصة والقومية المتناقضة بين العرب وإيران. هذا ناهيك عن المصالح العربية المتناقضة وغير المتفقة على سلم أولويات وعلى مشروع نهضوي عربي يحقق تكاملاً للمنطقة وتطبيعاً للعلاقات البينية. فقد كانت كل دولة عربية تريد إقامة حلف أو مشروع مشترك مع تركيا أو مع إيران أو حتى مع إسرائيل، ولم يكن هناك من مشروع لنظام إقليمي عربي واضح يستطيع إقامة أفضل العلاقات مع المحيط (بما فيه إيران وتركيا) وتحديد ما يريده في العلاقة مع إسرائيل والغرب الأمريكي أو الأوروبي (أو حتى الصين وروسيا واليابان).
والمسألة تلخصت خلال تلك الفترة في عجز متعدد المستويات:
1. عجز عربي عن إنتاج مشروع نظام إقليمي عربي جديد يرسم أدواراً واضحة للجميع ويبني علاقات سوية مع الجميع. ففي مقابل الرفض المشروع لخطة الشرق الأوسط الكبير لم تقدم الدول العربية الرئيسة أي مشروع جدي ولم تستطيع حتى عقد قمة عربية هي أكثر من ضرورية، ولم تستطع في السابق تسويق خطة الأمير (الملك) عبد الله بن عبدالعزيز للسلام ولا استطاعت منع كارثة العراق. وبالتالي فقد عجز العرب عن بلورة موقف محدد وموحد يصلح أساساً للتحاور مع إيران. وفي غياب الموقف العربي المدافع عن مصالح عربية مشتركة وأمن عربي مشترك ، برز سلوك إيران القومي الذي يقوم على تحقيق مصالحها بغض النظر عن مصالح دول الجوار العربي، ما نتج عنه سياسات تدخل وهيمنة لم تفعل غير تأجيج أحقاد وذكريات الماضي والتوترات المذهبية.
2. عجز إيراني عن إنتاج معادلة داخلية جديدة تخرج من مشروع الثورة الدائمة ومن أزمة ولاية الفقيه لتدخل في عمل مشترك مع العرب من أجل إسلام ديموقراطي تعددي وحضاري. ومع وصول تحالف أحمدي نجاد-خامنئي إلى السلطة تفاقمت أزمات إيران الاقتصادية والاجتماعية كما تفاقمت عزلتها الإقليمية والدولية ما أدى بها الى مزيد من التشدد ومن التمسك بالحلف مع سورية وضرورة استمرار الإمساك بالورقتين اللبنانية والفلسطينية. وهذا ما يفسّر سياستها الهجومية في لبنان وإسقاط حكومات الرئيس الحريري ناهيك عن اتهامها بالاغتيالات..وصولاً إلى دعمها السياسي والعسكري للنظام السوري.
3. عجز أمريكي عن تغليب منطق العدل والحقوق وعن صياغة علاقات متوازنة مع دول المنطقة (ولا نقول علاقات ضد إسرائيل، بل على الأقل متوازنة) وقد تفاقم هذا العجز بعد احتلال العراق وما يجري في فلسطين، وواصلت الإدارة الأمريكية سياسة العزل ضد إيران في ظل خاتمي ما سمح بتصاعد قوة الجناح الأصولي والمحافظ والراديكالي المعادي للانفتاح على العرب والغرب.
4. هذا العجز الأمريكي ومثيله العجز الأوروبي عن صياغة مشروع أوروبي موحد وفاعل في الشرق الأوسط خارج إطار الهيمنة الأمريكية، سمح لروسيا والصين بالنفاذ الى المنطقة مجدداً من خلال التحالف مع سورية أولاً ودعم إيران ثانياً في وجه العقوبات وفي دبلوماسية الملف النووي.
5. عجز إسلامي عن إقامة تضامن حقيقي ولو بالحد الأدنى بين أنظمة العالم الإسلامي وعن إنتاج خطة مواجهة (ليس بالضرورة خطة صدام أو تصد) وعن توحيد الجهود وبلورة المشتركات وتحديد الأولويات حفظاً للذات ليس إلا. ويلفت الانتباه هنا التنسيق الأمني بين أمريكا وكل بلد إسلامي أو عربي على حدة وقيام علاقات أكثر من ممتازة مع أمريكا ناهيك عن استمرار البعض في علاقاته مع إسرائيل.
7- إيران والشرق الاوسط والأمن العالمي بعد 11 سبتمبر
يمكن القول بأن القضايا الرئيسة التي سادت “شرق أوسط ما بعد 11 من سبتمبر” تمثلت في: ظهور متغيرات مؤثرة جديدة، الأمن السياسي والتطورات الجيوبوليتيكية، والتحول في دور اللاعبين. فأحداث 11 من سبتمبر 2001، أثرت بشكل كبير على التفاعلات الإقليمية، إذ لم تعد مواجهة القاعدة مسألة تخص كل دولة على حدة. وصارت “الحرب على الإرهاب” في مركز الاهتمام الرئيس لنظام الأمن العالمي.
وفي هذا الإطار فإن التحيز الأمريكي لإسرائيل في إطار عملية السلام العربية- الإسرائيلية قد تصاعد، ناهيك عن الدعم الأمريكي “الأعمى واللامتناهي” لها، وبحجة “مكافحة الإرهاب وحماية قلعة الديموقراطية في الشرق الأوسط” .
وقد تصاعد خلال تلك الفترة (2001-2011) التوتر السني الشيعي من جهة (من العراق إلى لبنان مروراً بباكستان)، كما تصاعد التوتر بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي من جهة أخرى (من الرسوم الدنماركية إلى مواقف البابا بندكتوس السادس عشر، إلى إحراق المصحف والفيلم المسيء في أمريكا…الخ…). وفي هذه المعمعة وجدت إيران أنها تستطيع القيام بمحاولات لامتلاك السلاح النووي.
إن هجمات 11 سبتمبر 2001 قد أعادت تعريف الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة فيما يتعلق بكل من: المعركة ضد الإرهاب، وامتلاك القاعدة لأسلحة دمار شامل، وسياق معاهدة منع الانتشار النووي.
ورغم أن قضية إرهاب القاعدة كانت موجودة خلال التسعينيات، إلا أن درجة ونوعية وتأثيرات عملياتها بعد هجمات 11 من سبتمبر قد حوّل العمليات الإرهابية التي تقوم بها إلى تهديد استراتيجي عالمي. كما أن احتمال امتلاك القاعدة لأسلحة دمار شامل وإمكانية استخدامها ضد الولايات المتحدة قد حول قضية القاعدة إلى “تهديد وجودي”، ولذا كان من الطبيعي أن تُحول الحرب ضد القاعدة أولويات واشنطن فيما يتعلق بنظام منع الانتشار النووي.
فخلال الحرب الباردة كانت الالتزامات متعددة الأطراف وتحقيق الإجماع هي أسس نظام منع الانتشار النووي. لكن مع وقوع هجمات سبتمبر 2001، أدى نزوع الولايات المتحدة لمواجهة التهديد الوشيك للقاعدة، باستخدام القوة العسكرية، إلى أن تتبنى واشنطن موقفًا مهيمنًا داخل نظام منع الانتشار .
وقد أدت الحرب التي يخوضها المجتمع الدولي ضد القاعدة، إلى بروز أزمات إقليمية جديدة في أفغانستان والعراق، أنتجت بدورها تطورات جيوبوليتيكية جديدة في المنطقة، بشكل وضع الشرق الأوسط في قلب اهتمامات الأمن العالمي. فالأزمات في العراق وأفغانستان (ومن ثم لبنان) قد زادت أهمية قضايا الشرق الأوسط وارتباطه بالأمن العالمي من خلال أمرين: الأول عن طريق تغيير دور الفاعلين الإقليميين والدوليين، والثاني عن طريق تغيير طبيعة التهديدات الأمنية.
وفيما يتعلق بتغير دور الفاعلين على المستوى الإقليمي، فإن الأزمات الإقليمية قد أنتجت تغيرات جيوبوليتيكية في جانبين أساسيين، الأول: ترابط التطورات السياسية في الدول الإقليمية فمن شأن أي تطور سياسي في بلد ما التأثير على البلدان الأخرى؛ والثاني: التحول في الدور التقليدي والنفوذ والمصالح الخاصة بالفاعلين الإقليميين والخارجيين.
وفي هذا السياق شكلت أزمة العراق تحولاً في دور الفاعلين. فمنذ بداية الأزمة، أدى التغير الذي طرأ على هيكل السلطة التقليدي في العراق وفي سياسته (أفول قوة الأقلية السنية العربية) واستبداله بهيكل جديد (صعود قوة الأغلبية الشيعية ومعها الأكراد) إلى التأثير على كل تطورات الأمن السياسي في المنطقة. والأكثر أهمية من ذلك، أن تصاعد أهمية العامل الشيعي والكردي في العراق الجديد قد أدى إلى زيادة النفوذ الإيراني في البلاد، كما أدى إلى تدخل الدول المجاورة (السعودية والأردن وسورية وتركيا).
كما أدت التطورات الجديدة في هيكل القوة في السياسة العراقية وصعود الشيعة إلى السلطة إلى ربط الشؤون العراقية بالتطورات السياسية في لبنان، من خلال حزب الله الذي أعلن صراحة مؤخراً عن دعمه لحكومة المالكي.
وفيما يتعلق بتغير أدوار الفاعلين على المستوى الدولي، فإن التطورات الجيوبوليتيكية الجديدة قد أدت إلى أن يمارس الفاعلون الخارجيون مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين دورًا أكثر فاعلية في المنطقة استنادًا إلى مصالحهم القومية والدولية؛ المتمثلة في أمن الطاقة، أسلحة الدمار الشامل، منع الانتشار النووي، ومواجهة إرهاب القاعدة.
فقد أصبحت دول الاتحاد الأوروبي، نتيجة للأزمة في أفغانستان، أكثر انخراطًا في الشؤون الأمنية الخاصة بالمنطقة (من خلال قواتها هناك على الأقل). إضافة إلى ذلك، فإن المصالح الاقتصادية المتنامية للاتحاد الأوروبي في الخليج العربي قد أرغمته على لعب دور أكثر نشاطًا في العراق والعالم العربي وفي العلاقات مع إيران. كما أن ارتباط الاتحاد الأوروبي الدبلوماسي بالأزمة النووية الإيرانية قد أعطاه دورًا فعالاً في الشؤون الاستراتيجية والسياسية في الشرق الأوسط.
وفي الوقت ذاته فإن التطورات الأمنية-السياسية، التي شهدها الشرق الأوسط، قد أعطت لروسيا والصين فرصة لتشكيل دور أكثر تأثيرًا في شؤون الشرق الأوسط. فالتطورات الجيوبوليتيكية الجديدة، إضافة إلى بعض القضايا الاستراتيجية مثل البرنامج النووي الإيراني وأمن الطاقة والأزمات في لبنان وفلسطين، ثم الأزمة الليبية (التدخل العسكري المباشر) وأخيراً تطورات الوضع في سورية، مهدت الطريق بشكل ما أمام عودة روسيا للشرق الأوسط. ولعل الأحادية التي تعاملت بها الولايات المتحدة مع الأزمات الإقليمية ومع الأزمة النووية الإيرانية قد وفرت الفرصة لموسكو للعب دور كبير في القضايا الإقليمية.
والأهم من ذلك، وفقًا لبارجيزار، أن البرنامج النووي الإيراني والعقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي قد أعطت بكين تأثيرًا أكبر في قضية الملف النووي الإيراني. فالتهديدات المتزايدة من قبل الولايات المتحدة ضد إيران من خلال العقوبات التي فرضها مجلس الأمن قد دفعت الأخيرة إلى تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا .
ثالثاً: العلاقات اللبنانية الإيرانية (2005-2011)
1- قراءات مختلفة حول العلاقات اللبنانية-الإيرانية
قبل اندلاع ثورات الربيع العربي وانتصارها في تونس ومصر (كانون الثاني/يناير2011) ثم امتدادها الى حلفاء إيران(ليبيا وسورية)، كان هناك مقاربات مختلفة في قراءة العلاقات الإيرانية- اللبنانية تنتمي إلى زوايا نظر مختلفة الى إيران وسياساتها وموقعها ودورها في العالم، وهذه المقاربات كانت تنبع بالطبع من استراتيجيات ومصالح مختلفة لا بل ومتناقضة حيال إيران والشرق الأوسط، وإعادة التذكير بها هنا تهدف إلى استخلاص ثوابت السياسة الإيرانية في المنطقة وحيال لبنان تحديداً، والإطلالة على مأزقها وأزمتها اليوم في ظل تصاعد الثورة السورية والتحولات الجذرية التي حصلت في ما يسمى جبهة الممانعة العربية.
أ-المقاربة الأولى انطلقت من رؤية إيران كعمود لمحور الشر في العالم، وكتهديد استراتيجي لأمن الشرق الأوسط واستقراره، ولمصالح الغرب (أمريكا تحديداً) فيه. ولا تخفي الإدارة الأمريكية نشرها وتعميمها لهذه المقاربة التي يتبناها حلفاؤها الأقربون. وبناء عليه كانت ترى هذه المقاربة إلى ما حدث ويحدث في لبنان منذ العام 2005، من زاوية دور إيران المتصاعد في الشرق الأوسط بالتحالف مع سورية وبالارتكاز الى منظمتي حزب الله وحماس، لتهديد الهيمنة الإسرائيلية والسيطرة الأمريكية. وترى هذه المقاربة في كل ما تقوم به إيران عنواناً واحداً وحيداً وهو السعي إلى أن تكون قوة إقليمية كبرى ذات وزن استراتيجي وإمكانيات نووية، ما يشكل تهديداً خطيراً للأمن والسلام في العالم. وبحسب هذه القراءة فإن لبنان هو ساحة المواجهة والنزال مع إيران لتحجيم دورها وأطماعها ولاستجلاب التصدي العربي لها..وهذا ما أبرزته السياسة الأمريكية خلال حرب تموز 2006 إذ تعاملت معها كمعركة اختبار مع إيران وليس كعدوان على شعب ودولة لبنان، وقد كان هناك تيار قوي في الإدارة الأمريكية (ولعله ما يزال قوياً اليوم بدليل الموقف الأمريكي المتهاون في الموضوع السوري) يتحالف مع اللوبي الإسرائيلي، ويدعو إلى تغيير في هذه السياسة بحيث يتم احتواء إيران بدل الصدام معها، ويتم إعادة تفويض سورية في لبنان مقابل طرد حماس والجهاد وحزب الله وترويضهم. ويركز هذا التيار على إنجاح التفاوض على المسار السوري الإسرائيلي وإهمال المسار الفلسطيني، ذلك أن إسرائيل ترتاح أكثر للتنازل في الجولان وترفض حتى الآن التنازل على الجبهة الفلسطينية (القدس، المستوطنات، حق العودة، الأسرى والمعتقلين، الحدود). وقد سرّب الإسرائيليون مراراً معلومات تتحدث عن مفاوضات سرية سورية-إسرائيلية.
هذه المقاربة الأمريكية ازدادت قوة بعد الربيع العربي وخصوصاً بعد تصاعد الكلام عن الملف النووي وقرب إنجاز إيران لسلاحها في ظل تصعيد الخوف الخليجي من العدوانية التوسعية الإيرانية..وقد استثمرت أمريكا ذلك في مسألة البحرين وتدخل قوات درع الخليج هناك.
ب- تنبع المقاربة الثانية من وجهة نظر أوروبية ، مثلتها أساساً فرنسا وألمانيا، وشاركتها فيها دول أوروبية أخرى، وهي كلها لها مصالح اقتصادية كبرى في إيران ومعها. ترى هذه الدول أن إيران دولة كبيرة ومهمة، ذات مصالح مشروعة ونفوذ إقليمي أكيد، وأنه يتوجب التعامل معها لاحتوائها على قاعدة الاعتراف لها بحجم معين لمصالحها حتى لا تتحول الى أطماع، وبمدى محدد لنفوذها لا يتعارض مع توسيع مساحة التأثير الأوروبي ولا مع الاستراتيجيات والتحالفات التي تضمن حماية مصالح أوروبا وحلفائها في الشرق الأوسط.
وبرغم وجود تناقضات واختلافات بين مكونات هذه الرؤية الأوروبية إلا أنها كانت متفقة على الجوهر العام كما عبّر عنه في حينه الموقف الأوروبي من الملف النووي الإيراني ومن العلاقات مع سورية ومن التسوية في لبنان (اتفاق الدوحة، زيارة الرئيس الأسد إلى باريس، وزيارة الرئيس ساركوزي إلى دمشق، والترحيب الأوروبي المعلن بكل هذه العلاقات التي كانت تضعها فرنسا في خانة اختبار نوايا إيران وسورية في قضية تحسين سلوكهما مع المجتمع الدولي. ويبدو أن لبنان كان هو الساحة أيضاً لهكذا اختبار). وقد حاولت القوى الأوروبية الاستفادة من حاجة إيران وسورية إلى انفتاح عالمي ومن إيجابية علاقاتها بها لاحتواء سياسة حزب الله في لبنان حيث لهذه الدول قوات في الجنوب، كما لها مصالح وروابط تاريخية ، وبما لا يتعارض مع نفوذ ومصالح وحلفاء تلك الدول في الشرق الأوسط (وخصوصاً إسرائيل).
غير أن تصاعد التهديد الإيراني في لبنان كما في الخليج وتزايد التمسك الإيراني بالملف النووي وعدم التراجع عنه قد دفع بالدول الأوروبية إلى مقاربة أكثر اقتراباً من السياسة الأمريكية حيال إيران الأمر الذي أفقد طهران أوراقاً أساسية في سياستها الخارجية..
ج- المقاربة الثالثة مثلتها روسيا التي وإن كانت تتفق في الجوهر العام مع المقاربة الأوروبية إلا أنها تتمايز عنها نظراً للإرث التاريخي للعلاقات الإيرانية-الروسية وهو إرث سلبي عموماً وفيه حذر وشكوك من الجانبين تعاظمت في الآونة الأخيرة، إذ تخشى روسيا من تنامي قدرة إيران النووية ومن تصاعد دورها ووزنها في وسط آسيا ومن تأثير تصاعد دورها في الشرق الأوسط على حلفاء روسيا التاريخيين وخصوصاً سورية.. إلا أن تصاعد الصراع الإيراني-الأمريكي يفيد روسيا كثيراً ، والدليل التحالف الروسي-الأرمني مع إيران في وجه آذربايجان في موضوع ناغورني كاراباخ (وهنا يكمن سبب موقف حزب الطاشناق الأرمني اللبناني المتحالف مع حزب الله)، وأيضاً استغلال الصراع الأمريكي-الإيراني لصالح التمدد والتدخل في جورجيا وفي استقلال أبخازيا وأوسيتيا (وهما مسلمتان بالمناسبة)، وفي رفض استقلال كوسوفا، والتلويح بالقبضة الحديدية في وجه سياسة أمريكا والناتو في شرق أوروبا ( خصوصاً بمواجهة الدرع الصاروخية).
وكان يتنازع القرار الاستراتيجي في إيران اتجاهان: يدعو الأول الى الاستفادة من الفرصة التاريخية التي تمثلها عودة الروح إلى روسيا، والتحالف بالتالي مع موسكو ضد أمريكا، ويدعو الثاني إلى عدم الثقة بالروس الذين لهم أطماع تاريخية في إيران وإلى الحذر من انبعاث العسكرية التوسعية الروسية، وهو يدعو بالتالي إلى عقد صفقة مع أمريكا التي ستحتاج إيران في المرحلة المقبلة لمنع الدب الروسي من ابتلاع وسط آسيا وشرق أوروبا، وكان هذا الفريق يدعو إلى أن تلعب إيران لعبة تركيا مع أوروبا والغرب، ويبدو اليوم أن انتفاضة الربيع العربي والثورة السورية تحديداً قد خلطت الأوراق؛ ذلك أن السياسة الروسية صارت تراهن اليوم على عودتها القوية إلى الساحة الدولية من خلال الملف السوري الذي يفترض تمتين تحالفها مع إيران.
د- المقاربة الرابعة كانت تمثلها الدول العربية المسماة بدول الاعتدال (مصر والسعودية أساساً ومعهما قطر والأردن والمغرب وبقية دول الخليج) والتي وإن كانت حليفاً أساسياً لأمريكا إلا أنها ترسم سياساتها في المحيط العربي والإسلامي على قاعدة بناء نظام إقليمي عربي جديد وتحقيق الأمن القومي العربي والتعاون بين البلدان العربية –الإسلامية من خلال مبادرة السلام العربية، والمنظمات الإقليمية كالجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي، وفي هذا الإطار تعيش هذه الدول حالة عجيبة من الخوف المتبادل: الخوف من شعوبها وجماهيرها، خوف بعضها من بعض،الخوف من أمريكا،الخوف من إيران. وتواجه هذه الدول خطر الإرهاب في الداخل وخطر الضغوطات الخارجية التي تقودها أمريكا تغطية للعدوانية التوسعية الإسرائيلية؛ فترى الدول العربية في إيران جاراً مسلماً يتوجب حفظه والتعاون معه لتحقيق أمن واستقرار وسلام الشرق الأوسط، ما يجعلها ترفض العدوانية الأمريكية حيال إيران من جهة،كما ترفض العدوانية التوسعية الإسرائيلية، وترفض من جهة أخرى سياسات إيران في التمدد ومحاولات الهيمنة وفرض النفوذ كما استغلال إيران لقضايا المنطقة لتسوية نزاعها مع أمريكا، وتقف هذه الدول في وجه سياسة إيران في لبنان وفلسطين إذ تجد فيها شقاً للوضع العربي وتسعيراً للصراعات الداخلية في وقت تحتاج فيه البلاد العربية الى الوحدة الداخلية والتضامن القومي لمواجهة المرحلة، كما يثير دعم إيران لمجموعات معارضة عربية وإسلامية قلق ورفض الدول العربية التي تخشى من امتداد الصراعات اليها..وأبرز تجليات الموقف العربي هذا كانت في الموقف من الانقلاب الحمساوي في غزة (حزيران 2007) ثم في اجتماعات مجلس التعاون الخليجي بعد التصريحات الإيرانية المهددة لسيادة البحرين، هذه الاجتماعات والمواقف التي تلتها تصاعدت حتى بلغت حملة درع الخليج في البحرين.
2- ثوابت السياسة الإيرانية في الشرق الأوسط ولبنان (2005-2011)
يمكن القول بأن سياسة إيران خلال الأعوام التي تلت وصول أحمدي نجاد إلى السلطة (2005) وقبل اندلاع الثورة السورية (آذار/مارس 2011) تميزت بتحالف داخلي بين فريقين: المحافظين التقليديين وتمثلهم مؤسسة ولاية الفقيه، والمحافظين الإسلاميين وتمثلهم مؤسسة رئاسة الجمهورية وأجهزة الدولة.. وقد توافق الطرفان على ثوابت سياسة إيران الخارجية والتي يمكن تلخيصها كما يلي: أن تكون إيران دولة إقليمية كبرى ذات نفوذ أكيد في الشرق الأوسط وفي وسط آسيا، وذات وزن في العالمين العربي والإسلامي يمكنها من احتلال الموقع الذي تستحقه في المجتمع الدولي، وهذا يعني أن تمتلك التكنولوجيا النووية والقدرة العسكرية والصناعية والاستراتيجية على حماية هذا الدور والموقع، وعلى أن تتوازن مع القوى الكبرى ومع المجتمع الدولي.
وهنا بالضبط تأتي أهمية العامل الشيعي في سياسة إيران (وبالتالي أهمية حزب الله ولبنان)؛ فالشيعة صاروا اليوم لاعباً رئيسياً وعاملاً أساسياً في السياسات الدولية (أفغانستان، العراق، لبنان) وورقة مهمة في استقرار الخليج (البحرين، الكويت، السعودية، وطبعا الإمارات ومعها قضية الجزر الثلاث) ، ناهيك عن الأهمية المتزايدة خلال تلك السنوات في السياسات الداخلية في مصر.
فمن خلال حزب الله وسياسات إيران في لبنان، ومن خلال التحالف مع سورية، ودعم حركة حماس،تصل طهران إلى حدود إسرائيل فتمسك بقضية المقاومة والاحتلال (لب النزاع العربي- الإسرائيلي، وعقدة السياسات الدولية في الشرق الأوسط) ،الأمر الذي يسمح لإيران أن تلعب الدور الرئيسي عربياً ودولياً. وقد عبر عن هذا الموقف كلام صدر عن نواب الرئيس أحمدي نجاد (السيدان مشائي وآغا زادة خصوصاً) فحواه أن مساعدة إيران والتفاوض معها على الملف النووي قد يساعد في حل المشاكل في العراق وفلسطين ولبنان وحتى بالنسبة لأسعار النفط .
وبالاستفادة من العلاقات الثقافية التاريخية مع الشيعة في لبنان ، ومن عامل الحرمان التاريخي والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي عانى منه الشيعة في لبنان دون وجود دولة حامية أو راعية لهم أسوة بالسنة أو الموارنة أو الأرثوذوكس. ومن حقيقة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي حيث صار حزب الله هو مرجعها الوحيد.
يطرح الإيرانيون قيادتهم لشيعة لبنان وتدخلهم بالتالي في أوضاع لبنان، وذلك من خلال دورهم كمرجعية دينية (قم والمرجع المجتهد) وسياسية( ولاية الفقيه وهي بمعنى ولاية الأمر كما سبق الايضاح). لقد غابت النجف كمؤسسة دينية مرجعية لشيعة لبنان بسبب استبداد النظام العراقي البائد وسياساته في القتل والتهجير والتنكيل للعلماء وأسرهم. ويكفي هنا ذكر مأساة آل الحكيم من أبناء وأحفاد وأنسباء المرجع الكبير السيد محسن الحكيم(توفي العام 1970) حتى ندرك حجم الفراغ العلمي والديني والمعنوي الذي أدى الى شلل المؤسسة وإلى استحالة عمل الآلية القديمة التقليدية في بروز المراجع الكبار في الحوزات وانتظام التراتبية العلمية فيها،الأمر الذي سهّل بعد وفاة المرجع الخوئي(1994)، قيام إيران بتعيين المراجع من عندها ومن بينهم السيد علي خامنئي في محاولة للجمع بين الولاية السياسية والدينية، أو بالأحرى لجعل مركز المرجعية في قم ومن ثم لدمجها بمنصب ولاية الفقيه، والأمر المهم هنا ملاحظته ليس فقط تعيين إيران لمراجع من إيران وفي إيران بل الكلام الذي صدر عن السيد خامنئي بعد ترشيح “أهل الخبرة” له مع خمسة أشخاص آخرين لمركز المرجعية إثر وفاة المراجع آراكي والخوئي وكلبايكاني ،إذ قال حرفياً:”لا حاجة ولا ضرورة أن أقبل هذا الحمل في إيران؛ لأنه والحمد لله يوجد مجتهدون كثر في قم وغير قم، لائقون لذلك؛ فأي لزوم أن أضع هذا الحمل فوق ذلك الحمل الثقيل الذي حملني الله إياه (يقصد منصب ولاية الفقيه الذي صار له منذ العام 1989) طبعاً لخارج إيران حكم آخر.أنا أقبل ما يحملونني إياه؛ لأن ذلك الحمل لو لم أحمله سيضيع” .
إن الهدف الرئيس للسياسة الإيرانية في لبنان يتمثل اليوم في احتفاظ حزب الله بقوته ونفوذه من خلال وزنه ودوره في البرلمان وفي الحكومة (التحالف مع ميشال عون ومع الأرمن ومع جماعة سورية، القدرة على تشكيل الحكومة والقدرة على تعطيلها، بقاء السلاح بيد الحزب ، التحكم في تعيينات الجيش والقوى الأمنية والقضاء، وصولاً الى تشكيل أغلبية برلمانية في الانتخابات المقبلة). وهذا يعطي إيران قدرة على التوازن مع إسرائيل (في حال التفكير بضربة إسرائيلية أو أمريكية لإيران فإن جبهة جنوب لبنان هي المرشحة للاشتعال والرد العنيف إلى قلب إسرائيل)، ومن خلال حزب الله وصلت إيران الى حماس والجهاد أي إلى قلب فلسطين ما جعلها تتحكم أيضاً إلى حد ما بالسياسات العربية والإسلامية حيال الصراع العربي-الإسرائيلي… فتفرض بالتالي توازناً مع العرب (مصر والسعودية تحديداً) يصل بها الى شاطئ التوازن مع المجتمع الدولي (الملف النووي).
والخلاصة الأكيدة التي يصل إليها المتابع والقارئ لسياسة إيران في لبنان أن هذا البلد هو ساحة ليس إلا، مهمتها إدامة الصراع مع العدو الإسرائيلي على أرض الجنوب حيث بالإمكان التحكم الكامل بكل مجريات هذا الصراع، ما يعني إبقاء الدولة اللبنانية مفككة إن لم يكن غير موجودة، أو جعلها ضعيفة أمام قوة حزب الله، والإبقاء ما أمكن على التحالف مع سورية خدمة لهذا الهدف.
3- حزب الله وولاية الفقيه
ما كان لحزب الله أن يولد وينمو ويستمر لولا الرعاية الإيرانية. فلقد تشكّل حزب الله في لبنان على أساس أنه “حزب الثورة الإسلامية في لبنان” أي كفرع من “حرس الثورة الإسلامية” الإيراني، ولم يكن ذلك فقط من حيث إن قوات حرس الثورة التي جاءت إلى لبنان إثر اجتياح صيف 1982 وأقامت قاعدة عسكرية لها في بعلبك ،(عشاق الشهادة)، قامت فعلياً بتوحيد وتدريب وتأطير وتنظيم المجموعات التي صارت لاحقاً حزب الله (1982- 1985)، وإنما أيضاً وأساساً من حيث إن الأساس العقائدي ـ الفكري ـ التنظيمي يقوم على نظرية وممارسة ولاية الفقيه، أي على الإيمان المطلق بها والانضباط التام لها والطاعة لمستلزماتها، وفي ذلك يقول السيد إبراهيم أمين السيد، حين كان الناطق الرسمي أو الأمين العام الأول للحزب: “نحن لا نستمد عملية صنع القرار السياسي لدينا إلا من الفقيه .. والفقيه لا تعرّفه الجغرافيا بل يعرّفه الشرع الإسلامي.. فنحن في لبنان لا نعتبر أنفسنا منفصلين عن الثورة في إيران.. نحن نعتبر أنفسنا ـ وندعو الله أن نصبح ـ جزءاً من الجيش الذي يرغب في تشكيله الإمام من أجل تحرير القدس الشريف. ونحن نطيع أوامره ولا نؤمن بالجغرافيا، بل نؤمن بالتغيير”.
وفي بيان تأسيس الحزب نقرأ: “إننا أبناء أمة حزب الله، نعتبر أنفسنا جزءاً من أمة الإسلام في العالم.. إننا أبناء أمة حزب الله التي نصر الله طليعتها في إيران وأسست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم، نلتزم أوامر قيادة واحدة حكيمة عادلة تتمثل بالولي الفقيه الجامع للشرائط… كل واحد منا يتولى مهمته في المعركة وفقاً لتكليفه الشرعي في إطار العمل بولاية الفقيه القائد”. . وفي شرح أدق لهذا المعنى يقول السيد حسن نصر الله: “الفقيه هو ولي الأمر زمن الغيبة، وحدود مسؤوليته أكبر وأخطر من كل الناس، ويفترض فيه، إضافة إلى الفقاهة والعدالة والكفاءة، الحضور في الساحة والتصدي لكل أمورها، حتى يعطي توجيهاته للأمة التي تلتزم بتوجيهاته. نحن ملزمون بإتباع الولي الفقيه، ولا يجوز مخالفته. فولاية الفقيه كولاية النبي والإمام المعصوم، وولاية النبي والإمام المعصوم واجبة، ولذلك فإن ولاية الفقيه واجبة. والذي يردّ على الولي الفقيه حكمه فإنه يردّ على الله وعلى أهل البيت… فمن أمر الولي الفقيه بلزوم طاعتهم فطاعتهم واجبة” .
وفي شروحات أخرى أحدث نقرأ: “لا علاقة لموطن المرجع بمرجعيته… فالإمام الخميني، كولي على المسلمين، كان يحدد التكليف السياسي لعامة المسلمين في البلدان المختلفة.. هذا والارتباط بالولاية تكليف والتزام يشمل جميع المكلفين… حتى عندما يعودون إلى مرجع آخر في التقليد، لأن الإمرة في المسيرة الإسلامية العامة هي للولي الفقيه المتصدي(….) الحزب يلتزم القيادة الشرعية للولي الفقيه كخليفة للنبي والأمة، وهو (الولي) الذي يرسم الخطوط العريضة للعمل في الأمة، وأمره ونهيه نافذان” .
نخلص من ذلك الى تأكيد حقيقة كون حزب الله حزب إيران في لبنان أو ذراعها الضارب في الشرق الأوسط، دون أن ينفي ذلك عنه صفته اللبنانية، ولكن لا ننسى أن كل طوائف لبنان كان لها منذ القرن السابع عشر والى اليوم دولة أجنبية خارجية تدعمها. السنة كانوا طائفة الدولة العثمانية ثم كان لهم العرب كمصر ومنظمة التحرير والسعودية،والموارنة دعمتهم فرنسا والفاتيكان،وكذلك الروم الكاثوليك وكافة الأقليات الكاثوليكية (إضافة الى إيطاليا والنمسا والكثلكة العالمية)، والروم الأرثوذوكس كان لهم روسيا فالاتحاد السوفياتي، والدروز والبروتستانت كان لهم بريطانيا، باستثناء الشيعة الذين خرجوا من قمقم الحرمان والتهميش هذا..ومن هنا شدة التحامهم بإيران، إذ هذه هي المرة الأولى التي يصير فيها لهم حضور وقوة وكيان،وذلك بفضل الدعم الإيراني .
4- حزب الله والمقاومة الإسلامية (1985-1992)
إن انطلاق حزب الله بدعم إيراني كبير، مع دخول حركة أمل دائرة الإمساك بالموقع الشيعي في السلطة السياسية (منذ انتفاضة 6 شباط 1984 التي جعلت أمل والوحدات الشيعية في الجيش اللبناني تسيطر على العاصمة بيروت)، ثم التحوّل الكبير في الاتحاد السوفياتي بعد صعود غورباتشوف(1985) وأثر ذلك على تصفية مواقع التدخل الروسي في العالم الثالث عموماً، والبلاد العربية خصوصاً، ما سمح بحدوث تحولات سياسية عميقة في العديد من الدول (عدن- الجزائر- السودان-العراق، وحتى سورية..)، إن كل ذلك عجّل بحصول تطورات هي أشبه بانقلابات جذرية؛ فشهدت أعوام 85-88 مسارعة سورية للإمساك بالورقة اللبنانية عبر سلسلة من الهجمات كان الاتفاق الثلاثي أبرزها . هذا الإمساك كان يستدعي تصفية النفوذ الفلسطيني تماماً؛ فكانت حرب المخيمات (85-88) التي كانت امتداداً لحرب طرابلس بين أنصار عرفات وأنصار سورية، وكانت سلسلة الاغتيالات التي طالت الكوادر الجماهيرية السنية في بيروت وطرابلس، وتلك التي ضربت القيادات السنية الرسمية مثل الشيخ الدكتور صبحي الصالح والمستشار محمد شقير والصحافي سليم اللوزي والنائب ناظم القادري وصولاً إلى المفتي حسن خالد، وترافق معها الإمساك السوري بالحزب القومي (1987-1988) بعد اغتيال محمد سليم وايلي الجقل وتوفيق الصفدي ومقتل العشرات في حرب الكورة، وصولاً إلى حملة اغتيال كوادر الحزب الشيوعي (1986-1987)، في بيروت والجنوب (ميشال واكد، حسين مروة، حسن حمدان، خليل نعوس، سهيل طويلة، لبيب عبد الصمد، نور طوقان….)، وأخيراً حرب بيروت في شباط 1987 والتي أعادت القوات السورية إلى العاصمة، وتخللتها مذبحة شارع فتح الله الشهيرة ضد حزب الله التي فسرّت يومها على أنها رسالة أو إشارة للأمريكيين والإسرائيليين بأن الدخول السوري وحده قادر على لجم الحزب والإسلاميين وعلى تحرير الرهائن الغربيين، وكانت سورية قد عقدت صفقتها مع أمريكا منذ العام 1987 وذلك حين استشعرت بوادر وبدايات الصفقة بين أمريكا وروسيا وبدنو أجل الاتحاد السوفياتي وبقرب انتهاء الحرب الإيرانية-العراقية، وبقرب عودة مصر قوية إلى الصف العربي، أدت هذه التطورات مجتمعة إلى تشكل وضع جديد بدأ بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين إيران والعراق (تموز 1988) ولم ينته مع انهيار الاتحاد السوفياتي (1990)، أو حرب الخليج الأولى التي اشتركت فيها سورية إلى جانب قوات التحالف الغربي بقيادة أمريكا (1991). هذه الأوضاع والأجواء هي التي مهّدت ورسمت طريق اتفاق الطائف. وكان رافقه ظهور الحلف الأمريكي-السوري في وجه العماد عون من جهة كما في وجه عرفات من جهة أخرى..ولا بد هنا من التذكير بأن الطائف كان برعاية أمريكية-سعودية- سورية، وقد نتج عنه ترسيم جديد للقوى وللتحالفات وللمواقع خصوصاً بين سورية وإيران.
وليس المجال هنا لتحليل أحداث 1987-1991 التي سبقت ومهدت لاتفاق الطائف، ولكن أبرز ما فيها هو الصراع الشيعي-الشيعي المسلح بين حركة أمل وحزب الله(1988-1991) والذي يمكن اعتباره صراعاً بين سورية وإيران للامساك بالورقة الشيعية في لبنان ومن خلالها الإمساك بورقة المقاومة أي ورقة الحرب والسلم على الحدود مع إسرائيل. كان السبب المعلن لتلك الحرب الداخلية رفض حزب الله للقرار 425 الصادر عن مجلس الأمن في آذار 1978 والذي يدعو إلى انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان ويشرعن وجود القوات الدولية التابعة للامم المتحدة، وقد نتج عن هذه الحرب 2500 قتيل من الطرفين ومن المدنيين الشيعة في الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع، وأدى فيما أدى إليه إلى سيطرة حزب الله على الجنوب تماماً بعد عدة اتفاقيات رعتها سورية في دمشق، وما أن جاء العام 1992 حتى كان الحزب هو الجهة الوحيدة المسموح لها بالعمل في جنوب لبنان.
كانت الانطلاقة الجديدة للمقاومة الإسلامية بعد 1992، وقد صارت وحدها المخولة بالعمل العسكري والأمني في الجنوب، ثمرة حقيقية لتوافق إيراني-سوري (مبارك عربيا وأمريكيا) حصر التمثيل الشيعي بحركة أمل وحزب الله على حساب الآخرين، وقد أدت وفاة الإمام الخميني وانتهاء الحرب مع العراق (1988) وولادة محور غربي-عربي جديد في وجه صدام حسين1990 (أمريكا-السعودية-الخليج-مصر) إلى انضمام سورية إلى هذا المحور. ولا بد هنا من إعادة التذكير بأن الغطاء المصري-السعودي طوال تلك المرحلة، والرضا الأمريكي-الأوروبي، هو الذي أمّن الدعم لسورية وللمقاومة على السواء، إضافة إلى القبول الإيراني بعد انتصار تحالف رفسنجاني-خامنئي الإصلاحي (1989) الذي تمكن من الإمساك الكامل بالسلطة خلال العامين 91- 92، وبدأ سياسة الانفتاح على الغرب وأمريكا ووقف سياسة تصدير الثورة والمغامرات..كل ذلك سمح بالدعوة إلى إنهاء الحرب في لبنان وبالتالي فإلى اتفاق الطائف(1989) والتعديلات الدستورية1990، فإنهاء وضع الجنرال ميشال عون1991، وتعيين نواب جدد، فالانتخابات النيابية1992 التي شهدت مقاطعة مسيحية وعودة الهيمنة والوصاية السورية…وفي كل هذه المحطات كانت إيران حاضرة لجهة قبول حزب الله بالتحول الى العمل السياسي والبرلماني والتحالف مع السعودية وسورية.
5- مرحلة 1992- 2000 أو الشراكة الإيرانية-السورية-العربية
حكم المرحلة من 1992 الى العام 2000 (الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان) شراكة إيرانية سورية محمية بغطاء عربي- دولي، ولا يمكن فهم التحول في سياسة حزب الله اللبنانية (من التبشير بالثورة الإسلامية الى الانخراط في النظام اللبناني) إلا من خلال فهم الاستراتيجية الإيرانية الجديدة؛ ذلك أن سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف وارسو، وانهيار النظام الشيوعي في أفغانستان، واندلاع الصراعات بين فصائل الجهاد الأفغاني، وتصاعد التوتر الهندي-الباكستاني مع صعود التطرف الهندوسي والإسلامي إلى السلطة في البلدين، وتوقف الحرب العراقية-الإيرانية وقيام الحملة العسكرية الدولية على العراق وما تلاها من عقوبات وحصار؛ كل ذلك حرر إيران من ضغوط وأخطار وتحديات وسمح لها بانتهاج سياسة هجومية جديدة بعد تعديل في نظام الحكم أطاح بالخمينيين اليساريين والثوريين لصالح البراغماتيين. وفي لبنان شهدت المرحلة انكفاء الطرف المسيحي عن المشاركة السياسية وتشكيله حالة إحباط وتراجع وعدم ثقة بالوضع الذي صار يسمى بالوصاية السورية نسبة للاتفاق الأمريكي-السعودي-السوري على تسليم سورية شؤون لبنان مكافأة لها على الموقف من العراق وتشجيعاً لها على الانخراط في الاعتدال العربي الحليف لأمريكا. وقد استفادت إيران من تلك الحقبة لتعزيز وضعها في لبنان فتمت إزاحة الشيخ صبحي الطفيلي من قيادة حزب الله (1991) وبعدها دخل الحزب إلى البرلمان اللبناني متحالفاً مع حركة أمل 1992-1996-2000 وصار قوة سياسية رئيسية في البلاد.
تمثلت قوة حزب الله والشراكة الإيرانية-السورية المحمية بغطاء عربي-دولي في تفاهم نيسان الذي أبرم إثر العدوان الإسرائيلي الواسع على لبنان في نيسان/ابريل 1996 والذي لعب فيه الرئيس الحريري (وفرنسا والسعودية بالتالي) دوراً أساسياً كان خير غطاء للدور السوري-الإيراني في الوقت نفسه، ما سمح بانتزاع موقف عربي- دولي لصالح المقاومة..
شهر العسل الإيراني-العربي-الغربي هذا استمر طوال عهد الرئيس كلينتون، وقد تعززت فيه وتطورت قدرات حزب الله القتالية كما السياسية والجماهيرية في لبنان، واتبعت إيران سياسة البناء البطيء والقوي داخل لبنان: من الحوزات والمستشفيات والمستوصفات الى المدارس والجامعات الى النوادي والحسينيات والمساجد،ومن التدريب والتسليح الى العمليات العسكرية الجهادية في الجنوب الى العمليات الأمنية ضد استخبارات العدو، وقد أثمر هذا العمل تحول حزب الله الى أكبر وأقوى تنظيم سياسي-عسكري-اجتماعي في لبنان لا بل والعالم العربي.
6- مرحلة 2000-2005
“بفعل عوامل عديدة، مثل تراجع أهمية الخطاب الأيديولوجي داخلياً وخارجياً بعد وفاة الإمام الخميني، وانتهاء عصر الاستقطاب الدولي على خلفية انهيار الاتحاد السوفيتي، وتدشين ما يسمي بـ”مرحلة التحول من حالة الثورة إلى حالة الدولة”، استبعدت إيران سياسة “تصدير الثورة” في تعاملها مع تطورات الإقليم، واستعاضت عنها بأدوات أخرى، مثل تأسيس علاقات وثيقة مع قوى عربية رئيسية على غرار سورية بهدف إكساب تمددها في الإقليم غطاء عربياً، وفتح قنوات تواصل مع العديد من المنظمات، مثل “حزب الله” اللبناني، وحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” الفلسطينيتين، فضلاً عن استثمار الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها العديد من القوى الإقليمية والدولية، لا سيما بعد بدء ما يسمى بـ”الحرب الأمريكية على الإرهاب” التي انتهت باحتلال كل من أفغانستان والعراق، وذلك لدعم طموحاتها في أن تصبح رقماً مهماً في معظم الملفات الإقليمية، إن لم يكن مجملها” .
تغيرت الأمور في لبنان بدءاً من خريف العام 2000 حيث إن المعارضة المسيحية اللبنانية وعلى رأسها بطريرك الموارنة قررت أن الانسحاب الإسرائيلي ينزع حجة القبول بالوجود السوري في لبنان ويطرح بالتالي قضية السيادة الوطنية والقرار الحر. وقد رأت المعارضة المسيحية في انتخاب الرئيس بوش الابن، وفي وجود الرئيس جاك شيراك في الحكم فرصة تاريخية للمطالبة بخروج القوات السورية من لبنان، وجاءت أحداث أيلول/سبتمبر العام 2001 لتطيح بالتحالف العربي-الغربي الذي كان مظلة للمقاومة في لبنان وفلسطين، الأمر الذي يفسر اختلاف المواقف العربية والغربية من انتفاضة الأقصى ما بين سبتمبر 2000 (تاريخ اندلاعها) وسبتمبر2001 (هجوم القاعدة على أمريكا). تلا ذلك طبعاً اصطفاف عربي جديد قادته السعودية ضد النظام العراقي، الأمر الذي كان مريحاً لإيران وحزب الله، فاستمر شهر العسل اللبناني الداخلي ما استمر الغزل الإيراني-الأمريكي إذ لم تتخل إيران عن سياسة المهادنة مع أمريكا والغرب ، بل هي تحالفت معها في أفغانستان لإسقاط حكومة طالبان، ونال شيعة أفغانستان وتحالف الشمال المدعوم من إيران حصة لا بأس بها في النظام الجديد في كابول، ثم تحالفت إيران مع أمريكا أو سهلت لها عملية غزو العراق وإسقاط صدام. خلال ذلك كان الافتراق السعودي-السوري يتفاقم ومعه الافتراق الفرنسي-السوري، الأمر الذي سهل عملية انضمام الرئيس الحريري الى المحور السعودي-الفرنسي، واقترابه من المعارضة المسيحية، وحصل اغتيال الحريري في 14 شباط/فبراير 2005؛ لتبدأ مرحلة جديدة عنوانها الصراع العربي-السوري: مصر والسعودية ومعها فرنسا شيراك والإدارة الأمريكية دعمت ثورة الأرز وقوى 14 آذار، في حين وقف حزب الله مع سورية (8 آذار)، وجاءت الانتخابات الرئاسية في إيران (حزيران/يونيو2005) بالسيد أحمدي نجاد، ليبدأ مرحلة جديدة قطعت مع السياق الإصلاحي للرئيس خاتمي ومع مرحلة المهادنة مع الغرب وأمريكا (التي افتتحها في الحقيقة الرئيس رفسنجاني منذ 1992)، ودخلت السياسة الإيرانية في لبنان منعطفاً جديداً مع أحمدي نجاد آيته حرب تموز 2006 التي شكلت مواجهة واختباراً بين أمريكا وإيران في لبنان ومن خلاله.
7- حزب الله والنظام السياسي اللبناني بعد 2006
في وثيقة داخلية صدرت في أيار 2007 يحدد حزب الله فهمه للسياسة كما يلي:
“إن بناء مفهوم للسياسة يقوم على ربط الداخل بالخارج وأخذ ذلك في الاعتبار في رسم المواقف والبرامج السياسية هو مسألة علمية قبل أن تكون سياسية. وهذا ما لحظه حزب الله بصورة أساسية في مقاربته للسياسة في لبنان.فالخارج هو الذي يستهلك طاقة الصراع ودينامياته وتوتراته، بينما تشكل العلاقات في الداخل دوماً على أساس التكامل..ولا يحضر الصراع داخلياً إلا حين ارتباطه بالخارج ولا يمارس عندها إلا وفق الحد الأدنى الذي تفرضه الضرورات الطبيعية للسياسة” .
في العام 1993 سأل المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين قادة حزب الله:هل تريدون فعلاً لبنان؟ وإذا كان نعم فهل حقاً تريدون جمهورية ديموقراطية برلمانية لبنانية ؟
واليوم فإن السؤال الذي نطرحه هو: هل يريد حزب الله فعلاً المشاركة السياسية أم أنه يعمل على بناء دولته الخاصة البديلة أو دولة داخل الدولة أم أنه يعمل لشيء آخر تماماً؟
أنا أرى أن حزب الله لا يحتاج الى إعلان برنامج لحكومة إسلامية أو لتطبيق الشريعة كما تصوّر البعض مقارنين بينه وبين غيره من الأحزاب الإسلامية العربية التي حملت هكذا مشروع.. فحزب الله حزب شيعي أولاً وأخيراً ، وحزب موجود في لبنان بلد الطوائف والتوازنات الطائفية الحساسة . حزب الله صار منذ العام 2005 هو الممثل السياسي والأيديولوجي والعسكري والاجتماعي الشرعي والوحيد للطائفة الشيعية اللبنانية (الطائفة الأكبر عددياً)، وفي ذلك يقول السيد نواف الموسوي:”يجب أن يعمل حزب الله بحيث يشعر شيعة لبنان أنهم بحاجة إليه، ونحن يجب أن نستخدم كامل قدراتنا وإمكاناتنا لنصبح أقوى وأكثر تجذراً في طائفتنا، وحين تلتحم مصالح الشيعة بنا فإن ضعفنا سينعكس عليهم، لذلك سيدعموننا ، يجب أن يستقر حزب الله في إطار الطائفة الشيعية ، لأن وجوده في خارجها سيسهل ضربه” .
وقد أمكن تحقيق التماهي بين الحزب وجمهور الطائفة في ظروف جديدة تماماً لم يسبق أن توفرت في ما سبق:
1= وجود مركز شيعي قوي في إيران الشيعية يحمل استراتيجية هجومية لتأكيد مصالحه ولفرض وجوده (وإيران دولة كبيرة وغنية وربما نووية).
2= غياب قيادات إصلاحية تاريخية (محسن الحكيم والخوئي في العراق، موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين في لبنان، منتظري وخاتمي وكروبي وموسوي في إيران).
3= تغييب النجف منذ وفاة السيد الحكيم العام 1970 ثم تحديداً بعد حملة القتل في 1979-1980 والتي انتهت باغتيال محمد باقر الصدر وتشريد الآلاف من العلماء، ونشوء موقع قم الديني كبديل للدراسة منذ العام 1980 ثم كمركز وحيد للشرعية الدينية الشيعية.
4= خروج منظمة التحرير الفلسطينية حامية السنة في لبنان بعد حروب طاحنة من عدوان اسرائيلي إلى معارك كبيرة مع النظام السوري وحليفه حركة أمل في لبنان ( 1982-1988)..
5= الصعود المالي والعسكري لإيران وللحزب ووصول أحمدي نجاد ومعه الحرس الثوري والتيار المهدوي إلى السلطة في إيران.
6= انهيار النظام الإقليمي العربي منذ حرب الكويت 1990-1991.
7= انهيار التوازنات الاستراتيجية الدولية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي 1991 ثم بعد ذلك 11 أيلول 2001 فالحرب الأمريكية على الإسلام وعلى إيران .
8= صعود الشيعة والأكراد في العراق بعد سقوط نظام صدام 2003.
9= انهيار الوضع المسيحي في لبنان بعد 25 سنة من الحرب الأهلية، وأزمة الوجود المسيحي في كل الشرق الأوسط مع سقوط إمكانية التدخل الأجنبي لحمايتهم.
10= انهيار الوضع السني اللبناني بدءاً من اغتيال الرئيس الحريري (14 شباط 2005).
11= أزمة النظام المصري من جهة ، وأزمة الوضع السعودي والباكستاني من جهة أخرى، مع سقوط النظامين العراقي والأفغاني، وصعود القاعدة، كل ذلك طرح أزمة الشرعية السنية .
12= خروج الجيش السوري من لبنان وانهيار المعادلة اللبنانية الداخلية.
من هنا نقول إن استراتيجية حزب الله الفعلية ليست اليوم إقامة دولة إسلامية، فهذه الدولة موجودة في إيران ؛ ولا المشاركة السياسية الديموقراطية في الحكم، إذ إن المشاركة الفعلية تعني المسؤولية الكاملة عن الكل؛ فيما المشاركة بعرف الشيعية السياسية هي التقاسم partage وليس الـ participation.
ما تعمل عليه الشيعية السياسية هو استراتيجية للهيمنة تسمح لها بأن تكون اللاعب الأوحد في البلاد . وقد مر الحزب على صعيد تطبيق استراتيجية الهيمنة بمرحلتين:
1= مرحلة التمهيد والدعوة للجمهورية الإسلامية في لبنان 1980-1992 : الرسالة المفتوحة-الموقف السلبي من الميثاق والكيان اللبناني ومن الدستور ومن الجمهورية الديموقراطية البرلمانية- الموقف السلبي من الحوار الإسلامي المسيحي – الموقف السلبي من كل أشكال المشاركة في الحكم – الصراع المسلح مع حركة أمل- التأسيس الكامل لمجتمع ودولة خارج المجتمع والدولة.
2= مرحلة الدخول التدريجي في الحكم عبر استراتيجية المشاركة السياسية 1992-2005 التي هي في الواقع استراتيجية تحقيق الهيمنة الطائفية أو ما أسميناه الشيعية السياسية المرتكزة على كل العوامل المذكورة أعلاه، والمستفيدة خصوصاً من عاملي العدد والقوة المسلحة.
إلا أن هذه الشيعية السياسية الجديدة تحمل سمات خاصة تجعلها تختلف عن المارونية السياسية القديمة، وذلك لعدة أسباب:
– المارونية السياسية ورثت دولة حديثة كانت تحضنها فرنسا وتشكل لها إدارة شبه كفوءة.
- الظرف الإقليمي والدولي ساعد على بحبوحة اقتصادية وعلى نمو اجتماعي أفرز طبقة وسطى متعلمة وديناميكية من كل الطوائف.
– النظام العربي الرسمي أعطى شرعية لدور لبنان في محيطه.
– الثقافة الحداثوية كانت القاسم المشترك بين نخب الطوائف كافة.
– الديموقراطية الليبرالية سمحت بفضل التعدد الطائفي بتحول لبنان الى منطقة حريات إعلامية وسياسية لم توجد في غيره..
– الشيعية السياسية (نسخة حزب الله) لا تنفصل عن فكر المهدوية الإيرانية وعن صعود التطرف الأصولي في الجانبين السني والشيعي، ولذلك فإنها محكومة بالأصولية.
خاتمة
تداعيات الربيع العربي: إيران والثورات العربية
في بداية الثورات العربية تعاملت إيران مع الوضع براحة كبيرة لا بل أنها اصدرت تصريحات ومواقف ليس فقط مرحبة وحاضنة لهذه الثورات وإنما أيضاً أدرجتها في سياق “الصحوة الاسلامية المباركة” .
فثورة تونس ثم مصر أطاحت بحليفين كبيرين من حلفاء أمريكا والغرب بما بدا وكانه مؤشر إلى فك عزلة إيران الدولية التي جهدت الدول الغربية الكبرى في فرضها منذ العام 2006. وخرج الإعلام الإيراني وإعلام حزب الله في لبنان بمقولات تعبّر عن الفرح بانتصار “محور الممانعة والمقاومة” على محور “الاعتدال العربي” أو “التبعية للغرب” ولعل المكسب الأساسي الآني والمباشر لإيران تمثل في انشغال المجتمع الدولي والغرب تحديداً بتداعيات الربيع العربي، خصوصاً مع اندلاع الثورة في ليبيا ومع تصاعد الاحتجاجات في البحرين، الأمر الذي سمح لطهران بكسب مزيد من الوقت في المماطلة المستمرة منذ سنوات وبالإفلات من كونها تحت المراقبة والضغط الدوليين في الملف النووي؛ كما أنها حققت أيضاً نوعاً من التقدم ولو البسيط في زيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب .
ولكن خطأ إيران تمثل في البناء السريع على هذا المعطى الآني للقيام باختراق كبير على أكثر من ساحة.. فكان الضغط على دول الخليج من خلال تحويل الاحتجاجات الشعبية في البحرين إلى أزمة حكم أولاً، ثم من خلال انفجار الوضع السياسي في الكويت ثانياً..ثم كان بعد ذلك التقدم للإمساك بالسلطة في بيروت عبر إسقاط حكومة الوحدة الوطنية التي أنتجها اتفاق الدوحة الشهير (بعد أحداث أيار/مايو 2008)، وتشكيل حكومة تخضع لسيطرة حزب الله وسورية (برغم وجود قوى خارج سيطرتها على رأسها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط)..
ولكن هذا الموقف المتسرع سرعان ما وجد نفسه في مأزق كبير. ففي البحرين أدى التدخل الإيراني والتوتر الطائفي إلى تصعيد خطير مع دول مجلس التعاون الخليجي التي اتحدت في سابقة تخلت فيها بعض الدول الصديقة لإيران عن سياستها السابقة التي كانت تقوم على الاحتواء والشراكة الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية والأمنية (مثال قطر وعُمان)، وكانت حملة درع الجزيرة الموحدة الدليل الساطع على دخول علاقة إيران بدول الخليج مرحلة جديدة تتميز بالعداء والمواجهة إلى حد التهديد بالحرب .
كما اتفقت كل دول الخليج على التوجه إلى الأمم المتحدة للشكوى من التدخل الإيراني في شؤونها الداخلية، وتوجيه اتهامات لإيران بتهديد الأمن الوطني الخليجي، خلال الاجتماع الاستثنائي لوزراء خارجية دول المجلس الذي عقد بالرياض في 3 أبريل 2011 .
ومع أن إيران نحجت في استغلال الانشغال الدولي في قراءة تداعيات الثورات العربية لزيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب، فإن هذا النجاح لا يعزز موقفها كثيراً في الأزمة النووية، خصوصاً وأن البرنامج النووي الإيراني بات يواجه مشكلات وصعوبات كبيرة، ما يمنح الغرب مزيدا من الوقت، وهامشاً أكبر للمناورة، وفرض أكبر قدر من الضغوط والعقوبات الدولية علي إيران بشكل يمكن أن يدفعها في النهاية إلى الاستجابة لمطالب المجتمع الدولي، خاصة وقف عمليات تخصيب اليورانيوم.
وعلى مستوى آخر لا يقل أهمية، أدى الموقف الإيراني الرسمي الداعم للنظام السوري ، إلى مزيد من الاحتقان العربي ضد ايران، وخصوصاً في الشارع الفلسطيني الإسلامي (حماس والجهاد)، وإلى اعتبار الموقف الإيراني طائفياً من جهة، ومصلحياً أنانياً من جهة أخرى؛ فظهرت السياسة الإيرانية أمام الشارع العربي، وكأنها تقدم الحلف الطائفي، أو الهلال الشيعي، كمحور ممانع ظاهراً، ولكن يقوم على المصالح الضيقة والأطماع والحسابات الطائفية في الحقيقة والواقع، على حساب شعارات العدالة والحرية وفلسطين والوحدة الاسلامية.
وبذلك تكون الانتفاضة السورية، قد ساهمت في كشف محور الممانعة (إيران-سورية-حزب الله-حماس) وخصوصاً بعد خروج قادة حماس والجهاد من سورية واتخاذهم لمواقف منددة بالموقف الإيراني من القمع في سورية.
وقد قامت التيارات الإسلامية التي شاركت في الثورات والتي كانت ترفع عادة شعارات الوحدة والتضامن مع إيران، بإعلان رفض المواقف الإيرانية جملة وتفصيلاً،بدءاً من رفض ادعاءات انتماء الثورات إلى النموذج الإيراني ، وانتهاء بإعلان القطيعة معها بسبب وقوفها هي وحزب الله إلى جانب النظام السوري.
وقد ظهر خلال العدوان الأخير على غزة (13-21 نوفمبر 2012) كيف أن الربيع العربي بصياغته لدور إقليمي جديد لدول كانت محسوبة على الاعتدال والعلاقة مع أمريكا والغرب (مصر وتونس وتركيا… وحتى قطر) قد أخرج إيران من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي وهي التي جاهدت سنوات لدخولها بل للاستئثار بها.
فمن أبلغ ما حصل خلال العدوان الصهيوني التحرك المصري-التونسي السريع إلى غزة، ثم الموقف العربي الموحد المتضامن القوي ضد العدوان وإلى جانب حماس والمقاومة في مؤتمر وزراء الخارجية العرب والذي تجسد في الوفد الوزاري العربي الذي دخل غزة فكسر الحصار وأربك ضربات العدو
وأيضاً تلك الوحدة الوطنية الفلسطينية الرائعة التي تجلت عبر مشاركة فتح والجبهتين الشعبية والديموقراطية إلى جانب حماس والجهاد في الرد على العدوان، وعبر مواقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي أعطى الغطاء الشرعي للمقاومة وحضنها ونقل القضية إلى مستوى متقدم ربطها بمعركة الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
الوحدة الفلسطينية والتضامن العربي هما وحدهما من أوقف العدوان وكسر الحصار على غزة وهما وحدهما ما سيسمح لاحقاً بتطوير الوضع إلى نقطة انعطاف تاريخية في مسار الصراع مع إسرائيل. ومخطئ من لا يرى أن ميزان القوى السياسي بعد الربيع العربي كان لمصلحة حماس والمقاومة الفلسطينية وأن المعركة المقبلة هي حول تصليب هذا الميزان الجديد وتحويله إلى واقع تاريخي دائم ومتطور.
إن كسر الحصار المفروض على غزة يفتح الطريق أمام مشاركة عربية أقوى في حماية خيارات الشعب الفلسطيني وفي حماية الأمن العربي الإقليمي وفي استعادة المبادرة العربية على الصعيد الدولي خصوصاً لجهة انتزاع الاعتراف الدولي بدولة فلسطين في الأمم المتحدة (رغم أنف الإدارة الأميركية) ، ثم في إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية تعيد توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنتاج إدارة سياسية فلسطينية جديدة تفتح شبابيك الأمل لشعب فلسطين ودولته العتيدة.
وبغض النظر عن الموقف من أنظمة ما يسمى بالاعتدال العربي فإن غزة قد فرضت أجندة أنظمة الربيع العربي على الجامعة العربية، وهذا ما حدا ببعض الدول إلى الغياب عن الاجتماع نفسه، وكان واضحاً أن معركة غزة قد أبرزت دوراً أكبر لمصر خصوصاً ثم لتونس والمغرب وليبيا وإمكانية أقوى لإعادة بناء التضامن العربي على أسس جديدة تكون لمصلحة القضايا العربية العادلة ولمصلحة الديموقراطية والحرية والكرامة.
ولم تفلح محاولات البعض تصوير المعركة على أنها بين محور الممانعة من جهة وعملاء أميركا(دول الاعتدال) من جهة أخرى؛ ذلك أن ثورات الربيع العربي لم تعد تسمح بهذه البهلوانات الفارغة التي انتهت مدتها ومفاعيلها، والانقسامات السابقة على الربيع العربي قد صارت في خبر كان، والنظام العربي الجديد يعاد تشكيله بأيدي قوى شعبية جديدة هذه المرة.
أخيراً فإن خطابات قادة حماس والجهاد أكدت على أن شعب فلسطين الذي لم ينس دور إيران وسورية وحزب الله في دعم حماس أيام الحصار، لم يقايض هذا التاريخ بحاضر الدعم الظالم للنظام المجرم في دمشق؛ فقد أوقفت إيران وسورية الدعم لحماس منذ أشهر ما يعني أن أولوية قضية فلسطين بالنسبة لهما لم تكن سوى أولوية حسابات خاصة وليس أولوية قضية عادلة.
إن تطورات الربيع العربي ووصول الحركة الإسلامية الى السلطة في مصر وتونس والمغرب وسقوط النظام الليبي (أحد دعائم حلف ايران- سورية) وانتصار غزة، سيفتح الطريق أمام معادلة جديدة في العلاقات العربية-الإيرانية وعلى الطرفين التعامل بواقعية وبمنظار مصالح شعوب المنطقة لبناء نظام إقليمي جديد قائم على التعاون المشترك والندية والاحترام المتبادل قبل أن تجرفنا العصبيات المذهبية.
لتحميل الدراسة كاملة
-
2023-01-08 مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة (9)
-
2022-02-28 يوميات جوردون في الخرطوم
-
2022-01-18 عن المثقف الإسلامي والأمراض العربية
-
2022-01-18 تهافت الفلاسفة