هل ينجح التحالف الصعب بين باكستان والولايات المتحدة؟

هل ينجح التحالف الصعب بين باكستان والولايات المتحدة؟

هل ينجح التحالف الصعب بين باكستان والولايات المتحدة؟

يمكن القول، بعبارة ملطّفة، إن إدارة العلاقات الأميركية-الباكستانية لم تكن بالأمر السهل على واشنطن. فطوال عقود؛ سعت الإدارة الأميركية إلى تغيير البؤرة الاستراتيجية للسياسة الباكستانية وتحويلها من التنافس مع الهند والبحث عن مزيد من النفوذ في أفغانستان؛ إلى حماية استقرارها الداخلي والاهتمام بتطورها الاقتصادي. لكن باكستان لم تغير سلوكها كثيرا برغم اعتمادها الكبير على الدعم العسكري والاقتصادى الأميركي. واليوم تتهم كل دولة الأخرى بأنها “حليف فظيع” ولعل كلتيهما على حق.

  من جهتهم؛ يميل الباكستانيون إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة دولة متنمرة. باكستان- حسب رأيهم- بأمس الحاجة إلى المساعدات الأميركية، لكن واشنطن لا تقدمها إلا لماما، تحجبها حينا وتبعدها أحيانا حين يريد موظفوها في واشنطن فرض تغييرات على سياسة إسلام آباد. كما يعتقد الباكستانيون أن الولايات المتحدة لم تقدر جميل آلاف الجنود ورجال الأمن الباكستانيين الذين قضوا في محاربة الإرهاب في السنوات القليلة الماضية، ولم تفجع بعشرات آلاف الباكستانيين المدنيين الذين قتلهم الإرهابيون. ويدرك الكثير من الباكستانيين، بمن فيهم الرئيس آصف زرداري ورئيس الجيش الجنرال أشفاق كياني، أن باكستان خرجت أحيانا عن نص التعاليم الأميركية، لكنهم يجادلون في أن باكستان ستكون حليفا أفضل لو أظهرت الولايات المتحدة حساسية أكبر تجاه مصالح إسلام آباد الإقليمية.

   من جهة أخرى؛ يرى الأميركيون في باكستان حليفا جاحدا تلقى ما قيمته 40 بليون دولار من المساعدات الاقتصادية والعسكرية منذ عام 1947، منها 23 بليون دولار لمكافحة الإرهاب في العقد الماضي وحده. ومن وجهة نظرهم؛ أخذت باكستان الدولارات الأميركية بابتسامة مخادعة، حتى وهي تطوِّر سرا أسلحة نووية في الثمانينيات، وتنقل الأسرار النووية إلى الآخرين في التسعينيات، وتدعم الجماعات الإسلامية المتطرفة مؤخرا. وبرأي عدد متزايد من كوادر مجلس الشيوخ ومجلس النواب وكتاب المقالات الافتتاحية في الصحف الأميركية؛ مهما فعلت الولايات المتحدة لا يمكنها الاعتماد على باكستان كحليف موثوق، في حين فشلت كميات هائلة من المساعدات الأميركية في إنعاش الاقتصاد الباكستاني وتنشيطه.

  العملية السرية التي قتلت أسامة بن لادن في آبوت آباد في نيسان/أبريل 2011 وصلت بالعلاقات الأميركية-الباكستانية إلى مستوى منخفض أكثر من المعتاد، ما جعل الحفاظ على وهم الصداقة بين البلدين أصعب من أي وقت مضى. عند هذه النقطة، وبدلا من متابعة الكفاح إلى هذه الدرجة من الاستماتة ولتلك الفترة الطويلة لقاء منافع قليلة للطرفين- بعض المال لباكستان، وتعاون استخباراتي محدود للولايات المتحدة، ومكاسب حربية تكتيكية قليلة للطرفين- يتوجب على الدولتين الإقرار بأن مصالحهما ببساطة لا تتلاقى بما يكفي لجعلهما شريكين وحليفين قويين. إن مواجهة هذه الحقيقة يعطي واشنطن حرية أكبر في السعي لتقصي سبل جديدة للضغط على باكستان وتحقيق أهدافها في المنطقة كدولة عظمى، في حين تستطيع باكستان أخيرا متابعة طموحاتها الإقليمية التي إما أن تنجح تماما وبشكل نهائي أو تعِّلم المسؤولين الباكستانيين، وهو الاحتمال الأرجح، محدودية قوة دولتهم.

طلب صديق

من المغري الاعتقاد أن توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وباكستان لم يكن على هذه الدرجة من السوء. صحيح أن شعبي الدولتين اليوم كليهما يكره أحدهما الآخر ، ففي استطلاع للرأي أجراه معهد غالوب عام 2011، كانت الباكستان من بين أقل الدول المحببة لدى الأميركيين، مثلها في ذلك مثل إيران وكوريا الشمالية، بينما أظهر استطلاع أجراه معهد بيو عام 2012 أن 80% من الباكستانيين ينظرون إلى الولايات المتحدة نظرة سلبية، وأن 74% منهم يعتبرونها عدوا. ولعل خير ما يمثل هذه الصداقة المتدهورة باطراد تهديد واشنطن بقطع المساعدات عن باكستان، والدعوات المتزايدة في إسلام آباد للدفاع عن سيادة باكستان ضد الغارات التي تشنها الولايات المتحدة بطائرات من دون طيار.

  لكن العلاقة بين الولايات المتحدة وباكستان لم تكن يوما جيدة. في عام 2002، وهي الفترة التي يمكن اعتبارها قمة التعاون الأميركي-الباكستاني في محاربة الإرهاب، أظهر استطلاع بيو أن 63% من الأميركيين لديهم آراء سلبية عن باكستان، مما جعلها خامس أكثر دولة يكرهها الأميركيون، بعد كولومبيا والمملكة العربية السعودية وأفغانستان وكوريا الشمالية. قبل ذلك في عام 1980، وبعد الغزو السوفياتي لأفغانستان بفترة وجيزة، أظهر استطلاع أجراه معهد هاريس أن غالبية الأميركيين ينظرون إلى باكستان نظرة سلبية، رغم حقيقة أن 53% منهم يدعمون قيام الولايات المتحدة بعملية عسكرية للدفاع عنها ضد الشيوعية. وفي الخمسينيات والستينيات، لم تظهر باكستان في استطلاعات الرأي الأميركية، لكن الرؤساء الباكستانيين اشتكوا مرارا من سلبية الصحافة الأميركية تجاههم.

  ونفور الباكستانيين من الولايات المتحدة ليس جديدا أيضا. في عام 2002، أظهر استطلاع بيو أن 70% من الباكستانيين يستنكرون سياسات الولايات المتحدة، وهو موقف سلبي حتى قبل تعاون الولايات المتحدة وباكستان في الحرب على الإرهاب. في مقال له في عدد أيلول/سبتمبر من مجلة كونفلكت ريزوليوشن (حل الخلافات) عام 1980، حلل شوكت النغمي، أحد كبار الموظفين الحكوميين الباكستانيين، الكلمات المفتاحية المستخدمة في الصحافة الباكستانية بين عامي 1965 و1979، ووجد دلائل على عداء باكستاني مستحكم تجاه الولايات المتحدة منذ بداية دراسته. ويذكر أنه في عام 1979 أحرق حشد غاضب سفارة الولايات المتحدة في إسلام آباد، ونقلت الصحافة تقارير عن هجمات على المباني الرسمية الأميركية حتى في الخمسينيات والستينيات.

  منذ قيام دولة باكستان وحتى الآن حاولت الدولتان إخفاء مصالحهما  المتباينة وحقيقة انعدام الثقة بين شعبيهما عبر الصداقات الشخصية على أعلى المستويات. في عام 1947، واجه قادة باكستان مستقبلا مجهولا حين لم تكترث غالبية دول العالم بالدولة الباكستانية الوليدة- طبعا باستثناء جارتها العملاقة الهند التي اتخذت موقفا عدائيا لا هوادة فيه. وكان تقسيم الهند البريطانية أعطى باكستان ثلث جيش المستعمرة السابقة ولكن سدس مصادر دخلها فقط. ولذلك، منذ نشأتها، تحملت باكستان أعباء جيش هائل العدد لا تطيق الإنفاق عليه، بوجود أعداء محيطين كثر لابد من تدميرهم.

  شجع بعض الموظفين الرسميين والباحثين البريطانيين- مثل السير أولاف كارو، حاكم المقاطعة الحدودية الشمالية-الغربية قبل التقسيم (مقاطعة خيبر-باختونخوا الآن)، وإيان ستيفنز، رئيس تحرير مجلة الستيتسمان- الآباء الباكستانيين المؤسسين على الاحتفاظ بجيش كبير حماية للدولة الوليدة من جارتها الهند. وبسبب انعدام القدرة على تمويل ذلك الجيش؛ لجأ القادة الباكستانيون إلى الولايات المتحدة، ظنا منهم أن واشنطن على استعداد لدفع ولو جزء من الفاتورة المترتبة، نظرا لموقع باكستان الاستراتيجي المهم على تقاطع الطرق المؤدي إلى الشرق الأوسط وجنوب آسيا.

  لم يسافر محمد على جناح، مؤسس الدولة الباكستانية وأول حاكم عام لها، ولا معظم مساعديه في العصبة الإسلامية، الحزب السياسي الرئيس في باكستان، إلى الولايات المتحدة ولم يعرفوا الكثير عنها. ولإشغال منصب سفير باكستان في الولايات المتحدة اختاروا من بينهم شخصا، ميرزا أبو الحسن أصفهاني، طاف الولايات المتحدة منتصف الأربعينيات لحشد التأييد لقيام دولة إسلامية مستقلة في جنوب آسيا. في رسالة بعث بها إلى محمد على جناح في شهر كانون أول/نوفمبر 1946، شرح أصفهاني ما يعرفه عن التركيبة النفسية الأميركية: “لقد تعلمت أن الأميركيين يعولون كثيرا على الكلمات المعسولة والانطباعات الأولى،” كتب أصفهاني، “فهم يميلون إلى حب أو كره فرد أو منظمة ما بسرعة وتلقائية.” وقد بذل المحامي وخريج جامعة كيمبردج أفضل مالديه لترك انطباع حسن لدى الأميركيين، وعرف بين النخب في واشنطن بسعة اطلاعه وأناقة ملبسه.

  في باكستان حاول جناح إقامة صداقة وطيدة مع بول إيلنغ، السفير الأميركي المعين حديثا في العاصمة كراتشي. وفي إحدى اجتماعاتهم اشتكى جناح من القيظ الشديد وعرض بيع مقره الرسمي للسفارة الأميركية، أرسل له إيلنغ أربع مراوح للسقف وتجاهل العرض. كذلك دأب جناح على إعطاء مقابلات للصحفيين الأميركيين، وأشهرهم مارغرت بوركي-وايت الكاتبة في مجلة لايف. “أميركا تحتاج باكستان أكثر مما تحتاج باكستان أميركا،” قال جناح للصحفية الأميركية. “باكستان محور العالم والقطب الذي يدور حوله الوضع المستقبلي لهذا العالم.” وقد ألمح جناح، كباقي الرؤساء الباكستانيين من بعده، إلى أمله في أن تغدق الولايات المتحدة المال والسلاح على باكستان؛ وكغيرها من الأميركيين بعدها، أعربت بوركي-وايت عن شكوكها في إمكانية تحقق ذلك، إذ لمست وراء التبجح قلقا و”إفلاسا فكريا… لأمة تستمد حرارة حيويتها الزائفة من جذوة تعصب ديني قديم تؤججه مجددا لإشعال حريق في المنطقة”.

  إن عداء الباكستانيين العميق والغريزي لأميركا اليوم يجعل من الصعوبة بمكان تذّكر مدى الجهد الذي بذله جناح وسفراؤه في الضغط على الولايات المتحدة في السنوات الأولى للاعتراف بباكستان وإقامة صداقة معها. لكن الأميركيين لم يقتنعوا، فجورج كينان، مستشار وزارة الخارجية مثلا، لم ير قيمة لاتخاذ باكستان حليفا. وعندما قابل أول رئيس وزراء باكستاني، لياقات علي خان، عام 1949 أجاب كينان على طلب خان دعم الولايات المتحدة باكستان ضد الهند بقوله: “يتحتم على أصدقائنا ألا يتوقعوا منا أشياء لا نستطيع القيام بها.” وقد انعكست رسالة كينان في حجم المساعدات البائس الذي أرسلته أميركا للدولة الوليدة، فمن مبلغ بليوني دولار طلبها جناح في أيلول/سبتمبر 1947، لم يصله إلا عشرة ملايين، انخفضت إلى أكثر من نصف مليون دولار بقليل عام 1948، وإلى صفر عامي 1949 و 1950.

إخوة في السلاح

حصلت باكستان أخيرا على ما أرادت مع انتخاب دوايت آيزنهاور رئيسا للولايات المتحدة عام 1952، إذ تبنى وزير خارجيته جون فوستر دالاس فكرة مقايضة المساعدات الأميركية بدعم باكستان للمصالح الاستراتيجية الأميركية. اعتبر دالاس باكستان حلقة حيوية في المنظومة التي أوجدها لتطويق الاتحاد السوفياتي والصين. كما راقت لدالاس المعادي بشراسة للشيوعية فكرة وجود جيش كبير من الجنود المحترفين وضباطهم الأكفاء الذين دربهم البريطانيون على جانب الحق والصواب في الحرب الباردة. “لا بد لي من بعض المقاتلين الحقيقيين في جنوب آسيا،” قال دالاس للصحافي والتر ليبمان عام 1954، “والآسيويون الوحيدون القادرون على الحرب فعليا هم الباكستانيون،” أضاف متأثرا بالتوصيفات السابقة التي أقنعته أن الجنود الباكستانيين مقاتلون أشداء.

  كذلك كان محمد علي بوغرا، الذي استلم منصبه كسفير باكستان الجديد في واشنطن عام 1952، تواقا لتمتين علاقات الصداقة بين البلدين. ونجح كسابقه في توثيق صلاته مع النخب الأميركية تحديدا، وخصوصا دالاس الذي كان لتوه حذرا من القيادة الهندية بسبب قرارها الحفاظ على عدم انحيازها في الحرب الباردة. وحرص بورغا على تعريف دالاس والصحافيين والساسة الأميركيين الذين كان يلعب معهم البولينغ في واشنطن بحقيقة مشاعرة الخاصة المعادية للشيوعية. في أثناء ذلك كلف دالاس الجنرال آرثر رادفورد، رئيس هيئة الأركان المشتركة، باكتساب ود واحترام كبار الشخصيات الباكستانية، خصوصا قائد الجيش الجنرال محمد أيوب خان الذي حكم البلاد في نهاية العقد. كان لأيوب خان دور فعال في تعيين بورغا رئيسا لوزراء باكستان عام 1953، بعد انقلاب القصر، على أمل أن تسرع صداقة بورغا مع الأميركيين تدفق السلاح والمعونة الاقتصادية إلى باكستان. وقد بدأت المساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية تتزايد بسرعة فعلا ووصلت بنهاية عقد الخمسينيات إلى 1.7 بليون دولار.

  لقاء ذلك، دفعت الولايات المتحدة باكستان للانضمام إلى نوعين من الترتيبات الأمنية المعادية للاتحاد السوفياتي: منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا في عام 1954، وحلف بغداد (وأطلق عليه لاحقا منظمة المعاهدة المركزية) عام 1955. ولكن منذ البداية كان ثمة بوادر مشكلات، فقد تبددت بسرعة أية أفكار عن انضمام باكستان الكامل إلى أي من تجمع الحلفين في حالة الحرب، إذ رفضت باكستان (كدول كثيرة أخرى) الإسهام في رصد الكثير من الأموال أو تقديم أية قوات عسكرية للمنظمتين. سافر دالاس إلى باكستان عام 1954 بحثا عن قواعد عسكرية تستخدمها الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتي والصين، وفي طريق عودته حاول إخفاء خيبة أمله من عدم تحقيق تقدم فوري. في مذكرة كتبها للرئيس آيزنهاور بعد الرحلة، وصف دالاس العلاقات الأميركية الباكستانية بأنها “استثمار” لا تجد الولايات المتحدة نفسها “في وضع يسمح لها عموما بطلب عوائد محددة عليه في الوقت الحالي.” لكن، حسب دالاس، إن وجود الولايات المتحدة في باكستان يسمح لها بتوسيع نفوذها وزيادة تأثيرها بمرور الزمن حتى بلوغ درجة “الثقة والصداقة”.

  من جهته افترض أيوب خان أنه حالما يتم تزويد الجيش الباكستاني بالأسلحة الحديثة- ظاهريا لمحاربة الشيوعية- فيمكنه استخدامها ضد الهند دون إحداث صدع كبير في العلاقات مع الولايات المتحدة. وقد أقر أيوب خان في مذكراته بأن “الأهداف التي أرادت القوى الغربية من حلف بغداد تحقيقها كانت مختلفة تماما عن الأهداف التي وضعناها في تصورنا.” لكنه جادل في أن باكستان “لم تخف سر نواياها أو مصالحها” وأن الولايات المتحدة عرفت أن باكستان قد تستخدم أسلحتها الجديدة ضد جارتها الشرقية. مع ذلك، حين اختبرت باكستان نظرية أيوب خان عام 1965 بالتسلل إلى كشمير والتسبب بحرب شاملة مع الهند، علق الرئيس ليندون جونسون تزويد الطرفين بقطع الغيار العسكرية. ردت باكستان على القرار عام 1970 بإغلاق قاعدة لوكالة المخابرات المركزية في بيشاور كانت أجّرتها للحكومة الأميركية عام 1956 لإطلاق رحلات طائرات التجسس يو 2 (مع أن باكستان اتخذت القرار بإغلاق القاعدة فور انتهاء حرب عام 1965، لكنها فضلت ببساطة عدم تجديد العقد بدلا من إنهائه بشكل دائم).

  تراجعت العلاقات الأميركية-الباكستانية بعد إيقاف المساعدات العسكرية، لكن لم ييأس أي طرف من محاولة إيجاد أرضية مشتركة تجمعهما. وافق خليفة أيوب خان في رئاسة الدولة الباكستانية، الجنرال آغا محمد يحيى خان، على العمل كوسيط بين الولايات المتحدة والصين، وسهل رحلة كيسنجر السرية إلى بيجينغ عام 1971، وكان كيسنجر آنذاك مستشار الرئيس نيكسون لشؤون الأمن القومي. لاحقا في العام نفسه، أظهر نيكسون تقديره للمساعدة الباكستانية بوقوفه إلى جانب باكستان الغربية وضد انفصاليي باكستان الشرقية وأنصارهم الهنود خلال الحرب الأهلة التي أدت إلى قيام دولة بنغلادش. وقد قللت الولايات المتحدة من أهمية المذابح التي ارتكبتها باكستان الغربية في باكستان الشرقية، وحاول نيكسون تجاوز الكونغرس لتوفير بعض المعدات لقوات باكستان الغربية. لكن ذلك لم يوقف تقسيم الدولة. ومع قيام حكومة مدنية يرأسها ذو الفقار على بوتو بتهدئة الأمور في الدولة الجديدة والأصغر حجما، أبقت باكستان والولايات المتحدة على مسافة بينهما. خلال زيارة نيكسون لباكستان عام 1973، عرض عليه ذو الفقار علي بوتو قاعدة عسكرية مطلة على بحر العرب لكن نيكسون رفض. ومع بداية دفء العلاقات مجددا ورفع واشنطن حظر تصدير السلاح عن باكستان منتصف السبعينيات، كانت باكستان قد سعت لتوها إلى الحصول على الدعم الاقتصادي من الدول العربية الواقعة إلى غربها، والتي اغتنت حديثا بتدفق دولارات النفط.

خارج القاعدة

المرة التالية التي حاولت فيها باكستان والولايات المتحدة العمل  معًا كانت على توسيع حركة تمرد صغيرة نسبيا في أفغانستان بطلب من الولايات المتحدة. بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، وجدت الولايات المتحدة الفرصة سانحة  لتعديل النتيجة بعد أدائها الضعيف في فييتنام، وتصفية حساباتها مع الاتحاد السوفياتي باستنزاف قواته العسكرية في أفغانستان، وذلك باستخدام المجاهدين الأفغان الذين دربتهم وكالة المخابرات الباكستانية (آي. إس. آي.) وموّلتهم وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه.). “لقد أصبح الاتحاد السوفياتي على حدودنا،” قال حاكم باكستان العسكري الجنرال ضياء الحق لصحافي أميركي في مقابلة أجراها معه عام 1980. “ألم يعد للعالم الحر أي اهتمام بباكستان؟” بعد ذلك بفترة وجيزة، فاجأ الجنرال ضياء حتى مستشار وزارة الخارجية الأميركية، روبرت ماكفارلين، بسؤاله: “لِمَ لا تطلب منا منحكم قواعد في باكستان؟”

  لم تكن الولايات المتحدة مهتمة بالحصول على قواعد في باكستان، لكنها بالتأكيد أرادت استخدام باكستان كنقطة انطلاق للتمرد ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. ولذلك لم تكتف الولايات المتحدة بتسريب الأسلحة والمال عبر الحدود الباكستانية إلى المجاهدين، بل زادت أيضا المساعدات الباكستانية أربعة أضعاف. في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات طالبت باكستان الولايات المتحدة مرارا بتزويدها بطائرات إف 16، واستطاعت إدارة ريغان إيجاد طريقة لتلبية طلبها، وحثت الكونغرس على رفع الحظر المفروض على المساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية لدول تسعى إلى امتلاك تكنولوجيا نووية أو تعمل على نقلها للآخرين. في مقالة كتبها في صحيفة نيو يورك تايمس، علل مساعد وزير الخارجية لشؤون الأمن الدولي، جيمس بكلي، هذا الكرم الأميركي بأنه “يعالج المصادر التحتية للقلق الذي يدفع أمة مثل باكستان إلى السعي لامتلاك قدرات نووية أصلا.” وهكذا وصلت الدفعة الأولى من الطائرات المطلوبة إلى راولبندي عام 1983.

  لكن كما حدث في حرب عام 1965 بين الهند وباكستان، كذلك أدى القرار السوفياتي بسحب قواته من أفغانستان عام 1989 إلى كشف التوترات الكامنة تحت سطح العلاقات الأميركية-الباكستانية، إذ سرعان ما ظهرت خلافات بين واشنطن وإسلام آباد حول من يقود أفغانستان ما بعد الغزو السوفياتي. وقد أدت هذه الخلافات مجددا إلى إنهاء الهدنة غير المعلنة بين الدولتين. بالطبع، أرادت باكستان بسط أوسع نفوذ ممكن لها في أفغانستان، اعتقادا منها أن وجود أفغانستان صديقة بجوارها يوفر لها عمقا استراتيجيا في حربها مع الهند. والولايات المتحدة من جهتها أرادت حكومة أفغانية مستقرة وغير شيوعية تستطيع إعادة أفغانستان إلى وضعها السابق كقوة إقليمية هامشية.

  للمرة الأولى أيضا أصبح دعم باكستان للإرهاب قضية حساسة. في رسالة بعثها إلى رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف عام 1992، حذر نيكولاس بلات السفير الأميركي في باكستان من أن الولايات المتحدة على وشك إعلان باكستان دولة راعية للإرهاب. “إذا استمر الوضع على ماهو عليه،” قال السفير، “فقد يجد وزير الخارجية نفسه مضطرا بحكم القانون إلى وضع باكستان على قائمة الحكومة الأميركية للدول الراعية للإرهاب في العالم… عليكم اتخاذ خطوات عملية لوقف المساعدات الباكستانية للفئات المتطرفة، وعليكم عدم السماح بوجود معسكرات تدريب لها في باكستان وآزاد كشمير (القسم الذي تسيطر عليه باكستان في كشمير).” كان ذلك في الحقيقة تهديدا فارغا، لكن الولايات المتحدة وجدت طرقا أخرى لمعاقبة حليفها السابق. في عام 1991 قطعت الولايات المتحدة المعونة العسكرية عن باكستان بعد أن فشل الرئيس جورج إتش. دبليو. بوش في التأكيد للكونغرس بأن باكستان تفي بالتزاماتها في عدم انتشار الأسلحة النووية. وبين عامي 1993 و1998 فرضت الولايات المتحدة عقوبات صارمة على باكستان بسبب استمرار نشاطاتها وتجاربها النووية. كما فرضت المزيد من العقوبات بين عامي 2000 و 2001 ردا على الانقلاب العسكري الذي جاء بالجنرال بيرويز مشرف إلى السلطة. مع ذلك انتعشت المساعدات المدنية في تلك الفترة.

معنا أم ضدنا؟

بقيت المرارة تلوّن العلاقات بين البلدين حتى عام 2001، حين سعت واشنطن إلى العمل مع إسلام آباد ثانية بعد أحداث 9/11، على أمل أن تستطيع باكستان هذه المرة حل مشكلاتها الداخلية وتغيير اتجاهها الاستراتيجي إلى الأبد. لكن لم يتوفر لدى عموم الشعب الباكستاني أو النخب العسكرية التي تمتلك سلطة صناعة القرار في البلاد حماس كبير لتقبل الولايات المتحدة أو تبني رؤيتها للمنطقة. من الجهة المقابلة، قضى الدبلوماسيون الباكستانيون معظم وقتهم في الولايات المتحدة يردون على انتقادات الكونغرس حول تعامل باكستان المزدوج وخداعها فيما يتعلق بقضايا الإرهاب والإرهابيين. استلم منصب السفير في واشنطن خلال تلك الفترة أولا مليحة لودهي، وهي صحافية سابقة، ثم أشرف كازي، وهو موظف محترف في السلك الدبلوماسي. عمل كلاهما على تقديم باكستان على أنها دولة المواجهة الرئيسة في الحرب على الإرهاب، وذلك عبر الوصول إلى أجهزة الإعلام الأميركية وحشد تأييد جماعات الضغط في الكونغرس، بمساعدة مجتمع الأميركيين الباكستانيين الذي تنامى نفوذه في الولايات المتحدة. وبدعم من إدارة الرئيس جورج دبليو. بوش، استطاع السفيران تفنيد الانتقادات الموجهة لباكستان والحصول على موافقة الكونغرس على حزم هائلة من المساعدات. لكن المشككين، كالصحافي سليغ هاريسون مثلا، أشاروا إلى أن باكستان “تبيع سياسة رديئة عبر بائعين جيدين”. خَلَفَ هذين البائعين جنرالان متقاعدان، جيهانغير كارامات ومحمد على دوراني، حاولا العمل عن قرب أكثر مع الموظفين العسكريين الأميركيين والتأكيد لهم بأن التقارير عن الدعم الباكستاني المستمر لطالبان أفغانستان مبالغ فيها. من الجهة المقابلة، تحدث آنتوني زيني علنا عن فائدة التواصل مع الباكستانيين “جندي لجندي”، وزيني كان قائد القيادة المركزية الأميركية إبان انقلاب مشرف، وقد أبقى على صلاته الوثيقة بمشرف حتى بعد تقاعده. مع ذلك لم يستطع الجنود-السفراء التغلب على الكتابات السلبية في الصحافة الأميركية حول تورط باكستان في أفغانستان.

  في تلك الفترة ركز سفراء الولايات المتحدة إلى باكستان على إقامة علاقات وثيقة مع الجنرال مشرف. وحين ضعفت سيطرة مشرف في نهاية العقد، حاولت آن بيترسون، سفيرة الولايات المتحدة إلى باكسان بين عامي 2007 و 2010، التواصل مع الساسة الباكستانيين المدنيين والاجتماع بقادة جميع الأحزاب الرئيسة في البلاد. كما أقام الأدميرال مايك مَلن، رئيس هيئة الأركان المشتركة، علاقة شخصية مع رئيس الجيش الباكستاني، الجنرال أشفاق كياني. عقد مَلن وكياني ستة وعشرين اجتماعا خلال أربع سنوات، وكثيرا ما وصفه بـ”الصديق”. لكن مع انتهاء فترة قيادته عبر مَلن عن خيبة أمله لأن لا شيء نفع في تغيير بؤرة تركيز كياني: “إن خيار الحكومة الباكستانية، وعلى وجه الخصوص الجيش الباكستاني والاستخبارات الباكستانية، باستخدام التطرف والعنف كوسيلة سياسية،” قال مَلن في خطاب ألقاه أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ عام 2011، “لا يعرض للخطر آفاق شراكتنا الاستراتيجية فحسب، بل أيضا الفرصة المتاحة أمام باكستان لتصبح أمة محترمة ذات نفوذ ومصالح إقليمية مشروعة.”

  في النهاية، انهار نظام مشرف خلال فترة تولي باترسون ومَلن مهامهما وتسلمت السلطة في باكستان حكومة مدنية. ومنذ البداية سعت الإدارة الجديدة برئاسة زرداري إلى إحداث نقلة في العلاقات الأميركية-الباكستانية وتحويلها إلى ما أسماه “شراكة استراتيجية”. أراد زرداري حشد دعم شعبي وسياسي في باكستان لمحاربة الإرهاب، بعد أن أعلنت الولايات المتحدة التزامها طويل الأمد بأمن واستقرار باكستان وبتقديم رزمة مساعدات أجنبية تتضمن المزيد من المساعدات المدنية على امتداد عدة سنوات. في الآن ذاته، جرى التفاهم على أن تسعى الدولتان إلى العمل معا للتوصل إلى حل نهائي ومقبول من كل الأطراف للمشكلة الأفغانية.

  حاولت بصفتي سفير باكستان في الولايات المتحدة بين عامي 2008 و 2011 تنفيذ هذه الأجندة والعمل على مد جسور التواصل بين الطرفين. رتبت عشرات الاجتماعات بين القادة المدنيين والعسكريين في البلدين، وكان كبار المسؤولين الأميركيين- بمن فيهم جيمس جونز، مستشار الأمن القومي؛ وهيلاري كلنتون، وزيرة الخارجية؛ وليون بانيتا، مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية ووزير الدفاع لاحقا- كرماء في الوقت الذي خصصوه لهذه الاجتماعات المطولة. كما عمل السناتور جون ماكين والسناتور ديان فنستاين والسناتور جوزف ليبرمان على تفصيل العناصر المختلفة لاستراتيجية الشراكة بين الدولتين، في حين قضى السناتور جون كيري ساعات لا حصر لها في بناء نماذج أولية للمفاوضات الأفغانية. وقبل وفاته عام 2011 سافر ريتشارد هولبروك المبعوث الخاص لإدارة أوباما في رحلات مكوكية بين العاصمتين، يشرح السياسات الأميركية للمسؤولين الباكستانيين من جهة، ويسعى إلى ضمان دعم الكونغرس للسياسات الباكستانية من الجهة الأخرى. قضينا أنا وهولبروك ساعات طويلة معا في العديد من عطلات نهاية الأسبوع، حين يصادف أن تكون زوجتانا خارج واشنطن. كنا نذهب إلى السينما أو نجتمع على الغداء في جورجتاون، ونتحدث طويلا حول تأمين انسحاب أميركي من أفغانستان بدعم باكستاني. كان الرئيس باراك أوباما على قناعة بأن القوات المسلحة الباكستانية تمتلك مفتاح الاستقرار في المنطقة، فأرسل إلى القيادة الباكستانية رسالة طمأنة تؤكد أن الولايات المتحدة تريد أن تساعد باكستان على الشعور بالأمان وعلى تحقيق التقدم والرفاهية، لكنها لن تقبل بحال من الأحوال دعم باكستان للجماعات الجهادية التي تهدد أمن الولاايات المتحدة.

   على الرغم من ذلك، في نهاية المطاف، لم تنجح كل هذه المحاولات لبناء شراكة استراتيجية بين البلدين، فالقادة المدنيون لم يستطيعوا إزالة عدم الثقة المستحكم بين الجيشين ووكالتي الاستخبارات الأميركية والباكستانية. كما إن انعدام السيطرة المدنية الكاملة على الجيش والاستخبارات في باكستان يعني، كالعادة، سعي الدولتين لتحقيق أغراض متباينة. ولا بد من الاعتراف بأن الأمور ما كانت لتختلف كثيرا حتى لو سيطر المدنيون بشكل كامل على الجيش والاستخبارات، فالأسهل للضعفاء دوما إعطاء حلفائهم ما يريدون بمعزل عن الرغبات الشعبية، سواء كانت قواعد طائرات يو2 أو طائرات بدون طيار أو تسليح المجاهدين الأفغان.

  انتهت فترة عملي سفيرا لباكستان في الولايات المتحدة فجأة في شهر تشرين ثاني/نوفمبر 2011، بعد أسابيع قليلة من اتهامي زورا من قبل رجل أعمال أميركي من أصول باكستانية باستخدامه كوسيط في طلب المساعدة الأميركية لإفشال محاولة انقلاب عسكري في باكستان فور انتهاء الغارة الأميركية التي قتلت ابن لادن. الاتهام كان باطلا وبلا معنى، فبحكم موقعي كسفير كنت على اتصال مباشر بالمسؤولين الأميركيين ولم أكن بحاجة لوساطة رجل أعمال مثير للجدل كي ينقل مخاوفي من تهديد الجيش للحكم المدني في باكستان. لقد أثبتت الواقعة، إن كان ثمة حاجة للإثبات، أن توثيق الصلات مع الأميركيين موقف لا يتمتع بشعبية واسعة في باكستان، وأن هناك رغبة عامة في الدوائر الإعلامية والقضائية والاستخباراتية الباكستانية للتشكيك بكل من يحاول إصلاح العلاقات المتوترة مع الشريك الأميركي.

حتى النهاية المريرة

بالنظر إلى كل هذا التاريخ من الفشل، حان الوقت لإعادة التفكير فيما إذا كان الإبقاء على التحالف بين الولايات المتحدة وباكستان يستحق كل ذلك العناء. الولايات المتحدة لن تقبل، في المستقبل المنظور على أقل تقدير، بمساواة باكستان مع الهند، ولا برؤية الجيش الباكستاني لبلده كقوة بارزة في جنوب آسيا. والمساعدات الأميركية وحدها، من الجهة المقابلة، لن تغير أولويات إسلام آباد الاستراتيجية. طبعا، مع تنامي قوة الديمقراطية الباكستانية، قد يستطيع الباكستانيون يوما فتح نقاش جدي وواقعي حول ماهية المصالح القومية الباكستانية وسبل تحقيقها. لكن حتى ذلك الحوار قد لا ينتهي وفق الشروط التي تفضلها الولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال، حسب استطلاع للرأي أجري عام 2012، ما تزال غالبية الباكستانيين ترى الهند الدولة الأكثر تهديدا لها (59%)، رغم أن معظمهم يفضلون تحسن العلاقات بين الدولتين (69%).

  بعد أن وصلت العلاقات الأميركية-الباكستانية إلى طريق مسدود اليوم، يتحتم على الدولتين تقصي سبل جديدة لبناء علاقة لا تقوم على التحالف. لقد عاشت الدولتان مثل هذه العلاقة عامي 2011 و 2012 حين أغلقت باكستان خطوط العبور إلى أفغانستان، ردا على هجوم شنه حلف شمال الأطلسي بطائرة من دون طيار على الحدود الباكستانية-الأفغانية وأدى إلى مقتل 24 جنديا باكستانيا. لكن ذلك لم يعق جهود الحرب الأميركية، فسرعان ماوجدت الولايات المتحدة طرقا أخرى لدخول أفغانستان. كان ذلك بالطبع أكثر تكلفة اقتصادية، لكن مرونة الولايات المتحدة أظهرت لإسلام آباد أن مساعدتها ليست لاغنى عنها بالدرجة التي كانت تظن. وإدراك هذه الحقيقة يجب أن يكون في صلب العلاقة الجديدة. كما ينبغي على الولايات المتحدة الابتعاد عن الغموض في تحديد مصالحها والعمل وفقها دون الإفراط في القلق من ردة فعل إسلام آباد.

  والاعتدال الجديد في العلاقة بين البلدين سوف يحفز في النهاية عملية إعادة تفكير شاملة. سوف تتابع الولايات المتحدة فعل ما ترى عليها فعله في المنطقة لتحقيق أمنها الخاص، كالاستمرار في شن هجمات الطائرات بدون طيار ضد من تشتبه بأنهم إرهابيون، مما سيثير غضب الباكستانيين في إسلام آباد وراولبندي حيث مقر القيادة العسكرية الباكستانية. وقد يثير القادة العسكريون الباكستانيون بعض الصخب والضجيج حول إسقاط طائرات أميركية بدون طيار، لكنهم سيفكرون مليا قبل القيام بذلك فعليا، بسبب الاحتمالات اللاحقة  في تصعيد حدة العداوة مع الأميركيين. ونظرا لموقفهم الضعيف (والذي سيزداد ضعفا مع توقف المساعدات العسكرية الأميركية)، ربما ستحجم باكستان عن مواجهة الولايات المتحدة وتحديها بشكل مباشر.

  حالما تدرك نخب الأمن القومي حدود قوتها قد تسعى الدولة الباكستانية في النهاية إلى تجديد شراكتها مع الولايات المتحدة- لكن هذه المرة بقدر أكبر من التواضع والوعي بما تستطيع وما لا تستطيع فعله أو الحصول عليه. يمكن أيضا، مع أن هذا أقل احتمالا، أن يحدد القادة الباكستانيون مالذي يجيدون فعله بأنفسهم ودون الاعتماد على الولايات المتحدة، كما اعتادوا أن يفعلوا في العقود العديدة الماضية. كذلك الأمر، في تلك الحالة، ستنتهي الاحباطات وخيبات الأمل المتبادلة جراء تبعية باكستان المترددة للولايات المتحدة. وآنذاك سيستطيع الدبلوماسيون في كلا البلدين تكريس جهودهم لتفسير مواقفهم الراهنة، وفهم مواقف الطرف الآخر، بدل الاستمرار في تكرار سرديات متناقضة حول أخطاء العقود الستة الماضية. وحتى لو لم يؤد انفكاك التحالف إلى نهاية دراماتيكية، فإنه سيحرر البلدين ويمكنهما من اتخاذ القرارات الاستراتيجية الصعبة التي حاول كل طرف حتى الآن تجنبها من حيث طريقة التعامل مع الآخر. سوف تكتشف باكستان ما إذا كانت أهداف سياستها الإقليمية في التنافس مع الهند واحتوائها قابلة للتحقيق دون دعم الولايات المتحدة. والولايات المتحدة بدورها ستستطيع التعامل مع قضايا مثل الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية دون تحمل عبء الاتهامات الباكستانية بالخيانة. إن صدقَ الطرفين في تحديد المكانة الحقيقية للروابط التي تجمعهما قد يساعد حتى في زيادة انسجامهما وتعاونهما بشكل أفضل وأسهل. في كل الأحوال، لا يمكن للعلاقات بين البلدين أن تكون أسوأ مما هي عليه الآن، مع تعلق الطرفين بفكرة تحالف لا يؤمن أي منهما حقيقة به. في بعض الأحيان، يبقى السبيل الأفضل للتقدم في علاقة ما الاعتراف بأنها انتهت في تمظهراتها الراهنة.

لتحميل الدراسة كاملة

اضغط هنا للتحميل