الترجمة والتَّلقي ومنافسات السَّبق فِي الاكتشافات العلميّة
يوسف بن عثمان

مقدّمة
تحتل التّرجمة، بما هي نقلٌ وتلقٍّ، واستيعابٌ وتملّكٌ، منزلةً مركزيّةً في حركة الفكر الإنسانيّ عامّةً، على اختلاف ضروبه وتنوّع سياقاته وتعدّد مساراته. فسواء تدبّرنا أمر هذا الفكر من جهة ظروف النّشأة والتّكوين تارةً، أو وجوه التأثّر والاستلهام طورًا، أو نظرنا إليه من جهة أشكال التقبّل والاستيعاب حينًا، أو سياقات التطوّر والتّأثير حينًا آخر، سرعان ما نتنبّه إلى أنّ ما يدور عليه الأمر في صميم حركة هذا الفكر (في مجالات الفلسفة والدّين والعلوم والفنون وغيرها) إنّما هو حوار بين مجتمعات وشعوب، وتثاقف بين أمم وحضارات، هدفه الظّفر بفهم كوني، وتفاهم إنسانيّ، تجاوزًا للاختلاف الذي يفرضه التعدّدَ اللّسانيّ وطلبًا للتّعايش الذي يقتضيه النّوع الإنسانيّ.
وهكذا، سواء اعتبرنا حركة التّرجمة في تاريخنا العربيّ-الإسلاميّ الوسيط وتلقّي حضارتنا لمصادر الفكر اليوناني، أو وجّهنا نظرنا إلى حركة التّرجمة في التاريخ الغربي الوسيط والكلاسيكي وتلقّي الحضارة الغربيّة لأصول الفكر العربيّ-الإسلامي، فنحن نجد أنّ مسارات تطوّر الفكر الإنساني عامّةً، وتطوّر الفكر العلمي بالخصوص، تُثير بين الشعوب وفي تاريخ الفكر العلمي، إشكاليّات عديدةً جديرةً بالدراسة والنّظر من قبيل إشكالية الترجمة والتلقّي والمنافسة والسّبق بين العلماء في الاكتشافات العلميّة. وإذْ نحن نقصد توجيه نظرنا نحو إشكالية الترجمة والتلقّي للتراث العلميّ العربيّ في الغرب اللّاتيني، فغايتنا هي إعادة النظر في المفاهيم الكبرى التي شكّلت كتابة تاريخ العلوم في العصر الحديث (مفهوم الثورة العلميّة وما يتّصل بها من براديغمات تحقيبيّة)، وفي التّصوّرات الرّائجة لطبيعة المُساهمات والأدوار التي تنسب إلى العلماء العرب وإلى الفترة العربيّة الوسيطة في تاريخ العلوم (دور الوساطة لا غير القائم على الترجمة والمحافظة والنقل)، وفي المقاربات الأساسيّة لأشكال التّثاقف والالتقاء بين الحضارات غربًا وشرقًا.
وسوف نركّز في هذه الورقة بالخصوص على النتائج التي آلت إليها البحوث والدّراسات في حقيقة دور علماء الفلك العرب والمسلمين، ومدى إسهامهم في قيام الثورة الفلكية في القرن السادس عشر ميلادي على أيدي كوبرنيكوس (في كتابيه "الشرح الصّغير Commentariolus" نحو سنة 1514 و"في ثورات الأفلاك السماويّة Desrevolutionibusorbiumcoelestium" 1543)، بحوث ودراسات جديدة قام بها كبار مؤرخي العلوم العربيّة مؤخّرًا وكشفت لنا أنّ أعمال علماء الفلك العرب والمسلمين من القرن الثّامن إلى القرن الرابع عشر ميلادي، أمثال البتّاني وابن أفلح وابن الهيثم والمجريطي وابن رشد والبطروجي ونصير الدين الطوسي ومؤيد الدين العرضي وقطب الدين الشّيرازي وعلاء الدّين ابن الشاطر وغيرهم، قد تُرجمت إلى اللّاتينيّة أو العبريّة وتمّ تلقّيها وتداولها في مكتبات أوروبا (إسبانيا وإيطاليا، وبولندا أيضًا بلد كوبرنيكوس)، وأنّه من الأرجح أن يكون كوبرنيكوس قد اطّلع عليها وهو يُبلور نظريته الفلكيّة الجديدة.
ولا يخفى عنّا أنّ هذه الأعمال التي "شككت" في الفلك البطلميوسي وأثبتت "بطلانه" وأنشأت نماذج فلكيّةً هندسيةً جديدةً قد اعتمدها كوبرنيكوس -والبعض قال نَقَلَهَا- (أو ربّما يكون اهتدى إلى مثيلاتها تمامًا، وهذا الالتقاء في اكتشاف الحقيقة قد يحدث -وحدث- في تاريخ العلم مثلما يحدث الالتقاء في الوقوع في الخطأ) وهو يبلور نظريّته الجديدة والثوريّة بحقّ في مركزيّة الشّمس في العالم القائمة على فكرة دوران الأرض حول محورها وحول الشّمس. ومهما تكن كيفيّة اعتمادها وطريقة نقلها، فإنّ أمر الاطّلاع على ما ورد في مؤلّفات الفلكيّين العرب (بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) ثابت عند كوبرنيكوس بما أنّه يذكر، هو نفسه، في كتابيه المشار إليهما أعلاه سابقيه من الفلكيين العرب المسلمين، أمثال البتّاني والبطروجي والزرقالي وابن رشد وثابت ابن قرّة.
وهكذا إنّ أسئلة من قبيل من الذي تَرجم؟ وماذا تُرجم؟ ومتى؟ وأين؟ من التراث العلمي (الفلكي) العربيّ-الإسلامي؟ ومن اطّلع عليه؟ وكيف تمّ تداوله وتقبّله وتلقّيه؟ ولمن كان قَصَب السبْق في اكتشاف بطلان علم فلك بطلميوس مركزيّ الأرض، وبلورة علم فلك جديد مركزيّ الشّمس؟ وما هو الطّريق الذي سلكه الفكر الإنساني من النقد إلى التجديد؟ من إبطال فلك بطلميوس إلى إعلان كوبرنيكوس أسس نظامه؟ وهل الثّورة الفلكية ثورة كوبرنيكية وكفى، أم يجدر الحديث بالأحرى عن تاريخ ثورات أوقد شراراتها علماء مدرسة مراغة الفلكية وأتمّ إنجازها في الأخير كوبرنيكوس؟ كلّ هذه الأسئلة تستدعي، بلا شكّ، تأمّل العالم المتفحّص ونظر المؤرّخ غير المتحيّز ورؤية المترجم النّاقد.
1- منعطف سنة 1957
أ- اكتشاف نصوص فلكية جديدة:
تمثّل سنة 1957 حدثًا في تاريخ كتابة تاريخ العلوم العربيّة. فهي السنة التي اكتشف فيها إدوارد كينيدي كتاب نهاية السّول في تصحيح الأصول لابن الشّاطر الدّمشقي المتوفّي سنة 1375م. وكان أوتّو نوغاباور قد جلب الانتباه في السنة نفسها إلى أعمال الفلكيّين العرب عندما وقعت يداه على نصّ يُترجم لأوّل مرّة إلى الفرنسيّة، وهو فصل من كتاب الطّوسي التذكرة في علم الهيئة عنونه ناشره الأكر السماويّة عند نصير الدّين الطوسي1.
وهكذا كان اكتشاف إدوارد كينيدي لكتاب ابن الشّاطر نهاية السّول في تصحيح الأصول، واكتشاف أوتّو نوغابور الفصل المذكور من كتاب الطّوسي التّذكرة في علم الهيئة، حدثين محفّزين لانطلاق دراسات وبحوث جديدة كشفت عن الدور الحقيقي لعلم الفلك العربيّ وعلاقته بالفلك الكوبرنيكي بعد الوقوف على التشابه الكبير، إلى حدّ التماثل، بين نماذج الطوسي وابن الشّاطر الفلكيّة من جهة ونماذج كوبرنيكوس من جهة ثانية. وقائمة المؤلّفات والمسائل المدروسة في النّصف الثاني من القرن العشرين كثيرة نكتفي بذكر أربعة منها:
كتاب نهاية السّول لابن الشاطر وسائر النّماذج التفسيريّة للحركات الكوكبية (بين سنة 1957 وسنة 1966).
كتاب التذكرة في علم الهيئة للطّوسي والفصل المذكور آنفًا منه حول نموذج حركة القمر وحركة الكواكب العلويّة (كارا دو فو 1893 وكينيدي 1966).
كتاب قطب الدّين الشّيرازي نهاية الإدراك والتحفة الشهيّة ونماذج حركات الكواكب العلويّة وحركة القمر وعطارد عنده (كينيدي 1966).
كتاب الهيئة لمؤيّد الدين العرضي ونماذج حركات الكواكب العلويّة وحركة القمر عنده (صليبا 1979 و1989) (اُنظر صليبا ص. 69-70).
ولنفتح كتابًا واحدًا من هذه الكتب التي ذكرنا. ففي الفصل الثّاني من كتاب نهاية السّول في تصحيح الأصول المعنون "في الشكوك والمحالات التي وقفنا عليها في الهيئة المشهورة"، نجد وصفًا لوضع ابستيمولوجي هشّ كان يعيشه الفلك البطلمي منذ ما يزيد عن ثلاثة قرون آنذاك يعبّر عنه ابن الشّاطر بعبارات من قبيل: "غير موافق لدقيق الرّصد"، "وهذا محال لأنّه لم يُر كذلك"، "توهّم كاذب"، "توهّم محال"، وغيرها من العبارات التي يُبيّن فيها بطلان الفلك البطلمي. وهذا يفيد دخول هذا العلم مرحلة الأزمة، إذا أردنا أن نستعمل أدوات توماس كوهن التحليليّة، وإعلان نهاية البراديغم القديم القائم على الحركة الدّائرية المستوية، وفلك التدوير، والفلك الحامل ومعدّل المسير وغيرها، وبدء صياغة براديغم جديد، وهي مرحلة العلم الثّوري التي ستشهد مرحلة اكتمالها بقيام الثورة العلمية في عصر كوبرنيكوس.
يقول ابن الشاطر في مقدّمة الكتاب: "وقد تقدّم بطلميوس وغيره من المتقدّمين والمتأخّرين بوضع أصول، إلّا أنّها لا تفي بالمطلوب، لأنّها مخالفة لما قد تقرّر من الأصول الهندسيّة والطّبيعيّة. وقد أورد جماعة من محقّقي هذا العلم على تلك الأصول شكوكًا يقينيّة. وأوردنا نحن شكوكًا أخرى وقفنا عليها بالرّصد وغيره". (ص. 28). ونحن نلمس في كتابة تاريخ علم الفلك ههنا مرحلتين أساسيّتين: المرحلة التأسيسيّة المتعلّقة "بوضع الأصول" من قبل "بطلميوس وغيره من المتقدّمين والمتأخّرين"، والمرحلة النقديّة التي أورد فيها "جماعة من محقّقي هذا العلم""شكوكًا يقينيّةً" على تلك الأصول. ويقدّم ابن الشّاطر نفسه على أنّه أوج ما وصلت إليه مرحلة الشكوك والتحقيق في الأصول. فالأمور "المحالة" و"المخالفة لدقيق الرّصد" أو "المخالفة لما تقرّر من الأصول الهندسيّة والطبيعيّة" كثيرة، سواء عند الجماعة الأولى ذات الدّور التأسيسي والمضطلعة بمهمّة "وضع الأصول"، أو عند الجماعة الثانية ذات الدّور النّقدي والمضطلعة بمهمّة "التشكيك في الأصول". ويورد ابن الشاطر –في إحالة لما استفاض فيه القول في كتابه المفقود الموسوم بـ [تعليق الأرصاد] – كتاب [الاقتصاص] لبطلميوس بالنسبة إلى الجماعة الأولى، ومؤلّفات شهيرة أخرى بالنّسبة إلى الجماعة الثّانية، وهي: نصير الدّين الطّوسي في [التذكرة]، والمؤيّد العرضي في كتاب إصلاح هيئة أفلاك القمر، والمجريطي والزرقالي وابن أفلح وغيرهم.
ب: موجة دراسات جديدة وتشكّل مفهوم "مدرسة مراغة"
إنّ كتابة تاريخ العلوم العربيّة قد شهدت تحوّلًا جذريًّا وحاسمًا منذ سنة 1957، تاريخ صدور مقال فيكتور روبرت في مجلّة إيزيس2 وما تبعه من دراسات ومقالات في النّصف الثّاني من القرن العشرين لإدوارد كينيدي3 وسواردلو4 وأوتو نوغابور5 وفؤاد عبّود6 وويلّي هارتنر7 وجورج صليبا8 وماريو ودي بونو9 وجميل رجب10 ونضال قسّوم11، ومحمّد بن ساسي12 وغيرهم.
وبالفعل، فمنذ سنة 1957 دشّنت مجموعة من البحوث والدراسات عصرًا جديدًا في كتابة تاريخ العلوم العربيّة، وأصبحت هذه السّنة منطلقًا جديدًا في التّأريخ المعاصر للعلوم العربيّة، وعدّها معظم المؤرّخين الذين كتبوا بعد ستينيّات القرن الماضي "لحظة حاسمة" (سواردلو) أو "لحظة فارقة" (صليبا) أو بداية "مسيرة الاعتراف" (بن ساسي)؛ لأنّ الدراسات التي انهمرت بعدها وجّهت توجيهًا جديدًا كتابة تاريخ العلوم العربيّة.
وبداية من سنة 1966 ظهر مفهوم "مدرسة مراغة"13 الفلكيّة، وأصبح أغلب الدّارسين للجماعة العلميّة التي ميّزت تلك المدرسة مجمعين على تحقيب جديد لتاريخ العلوم، يُبحث فيه عن المصادر الفكرية لهذه المدرسة وأصولها قبل القرن التاسع وأشكال تلقياتها وتطوّراتها العربيّة والغربيّة بعد القرن الرابع عشر، في إطار التّماسّ الفكري والالتقاء الحضاري والثقافي بين الأمم والشعوب. ومن ثمّ، ظهرت في النّصف الثّاني من القرن العشرين دراسات عديدة تعنى "بمدرسة مراغة" الفلكيّة وبمساهمات أعلامها (ابن الشاطر، الطوسي، الشيرازي، العرضي، وغيرهم ممن أثّروا فيهم أو تأثّروا بهم مثل ابن الهيثم والبطروجي وغيرهما) وبدورهم في الثّورة الكوبرنيكية، أو بالأحرى في الثورة الفلكية. وقد نتج من زخم هذه الدراسات في الفترة المشار إليها وعن الاهتمام البالغ بكتابات علماء الفلك الذين ذكرنا، مساءلة جديدة لتاريخ العلوم ولدور الفلكيّين العرب في قيام الثورة العلميّة الحديثة. وذهب البعض من هؤلاء المؤرّخين (جورج صليبا) إلى اعتبار أنّ أعمال الجماعة الأولى لم تقف عند حدود مراغة، المدينة الواقعة في شمال غرب إيران والتي سُميت المدرسة نسبة إليها، ولا هي توقّفت في حدود القرن الثّالث عشر، بل امتدّ تأثيرها جغرافيًّا إلى علماء الفلك في الغرب الإسلامي، أي في المغرب والأندلس، وتواصل تاريخيًّا من القرن الحادي عشر إلى القرن السّادس عشر.
2: ثورة فلكيّة عربيّة ونهاية البراديغم التحقيبي التقليدي
ت: الكارتوغرافيا التّأويليّة للأعمال الفلكيّة العربيّة
لو أردْنا أن نرسم خريطة المقالات والدراسات التي عنيت بالتحقيق في طبيعة العلم العربيّ والفحص عن منزلته في تاريخ العلوم، ومدى المساهمة العربيّة الوسيطة في الثورة الفلكيّة الكوبرنيكيّة لوجدناها تتوزّع، بحسب التطوّر النظري والفنّي لهذه الأعمال الفلكيّة ما بين القرن التاسع والقرن الرّابع عشر ميلادي، إلى ثلاثة أصناف مبحثيّة على الأقلّ:
كتابات تركّز على نقد علماء الفلك العربيّ الإسلامي للفلك البطلمي وإبطال النّماذج الفلكيّة البطلميّة عمومًا14. ونحن نتموقع ههنا في مرحلة النّقد العلمي العربيّ للبراديغم البطلمي اليوناني من خلال التركيز على الكتابات من قبيل "الشكوك" و"الإبطال" و"التّصحيح"، وغيرها من العناوين التي تكشف عن أزمة الفلك البطلمي. وهو ما يكشف منذ البدء عن عدم تلقّي العرب التراث الفلكي اليوناني وتقبّله كما هو.
كتابات أمْيل إلى دراسة مناقب الفلكيّين العرب المسلمين وإنجازاتهم وإبراز عناصر التجديد والابتكار والفرادة فيها من أرصاد وآلات رصد وجداول وحسابات ورسوم ونظريّات ونماذج جديدة وغيرها15. وهذه الدراسات تعنى بكشف عناصر الجدّة في علم الفلك العربيّ وتجاوزه أزمة الفلك البطلمي.
كتابات أكثر اتّجاهًا إلى التحقيق في أصول الثورة الكوبرنيكية والتنقيب عن جذورها من خلال دراسة أوجه التشابه والاختلاف بين أعمال الفلكيّين العرب (وعلى وجه التحديد فلكيّي مدرسة مراغة) وعمل كوبرنيكوس، لتنتهي إلى استكشاف إمكانات الوصل والالتقاء والتّماسّ بين الفلك العربيّ والفلك الكوبرنيكي16. وتتراوح نتائج هذا الاستكشاف بين تأكيد الرأي القائل بأخذ كوبرنيكوس عن الفلكيّين العرب بأدلّة داعمة وقرائن وجيهة، أو الاكتفاء بتوقّع ذلك في غياب أدلّة تاريخيّة ثابتة، أو نفيه أصلًا مع القول إمّا بالتشابه المصادف أو بالاختلاف الجذري، أو تعليق الحكم وترك حسم المسألة رهين اكتشاف نصوص جديدة وترجمة النصوص الأصليّة وتلقّياتها المباشرة وغير المباشرة، لرسم خطوط التّماسّ والتأثير والتّلاقح الثقافي والحضاري.
إنّ هذه الموجة من الدّراسات تؤكّد حاجتنا إلى إعادة كتابة تاريخ العلوم بمفاهيم ومقاربات ونماذج تفسيريّة وأمثلة وتصوّرات وبراديغمات جديدة نابعة من فهم جديد لهذا التّاريخ.
ث: تحطيم البراديغم السائد لتاريخ العلوم
لقد ساد الاعتقاد لمدّة طويلة أنّ دور علم الفلك العربيّ في تاريخ النّهضة الأوروبيّة إنّما يقتصر على دور الوساطة، حيث حافظ الفلكيون العرب على أعمال اليونان فترجموها وقدّموا ملخّصات وشروحًا لها وذلك ما بين القرن التاسع والقرن الثالث عشر ميلادي ليُنقل هذا التراث اليوناني، في ما بعد، إلى أوروبا بدءًا من القرن الثالث عشر، وحينها كانت أوروبا العصر الوسيط مستعدّة لتقبّل الإرث اليوناني مترجمًا وملخّصًا على نحو ما فهمه الوسطاء العرب. ومن هذا المنطلق فإنّ دراسة علم الفلك العربيّ لم تكن بغية اكتشاف دوره التاريخي، وإنّما كانت على سبيل المدخل إلى التراث الفلكي اليوناني كما ترجمه العرب وتلقّوه وحافظوا عليه ثمّ نقلوه إلى الغرب اللاتيني17.
وثمّة في حقيقة الأمر إشارات عديدة في أدبيات تاريخ العلوم في القرنين الأخيرين إلى الفلكيّين والأطبّاء والرياضيّين العرب المسلمين وغيرهم من ذوي العقول العالمة في شتى المجالات. لكن كثيرًا ما تتبع الإشادة بدورهم بالتذكير باقتصاره على الترجمة والوساطة وإنكار قدرتهم على التجديد والابتكار لافتقارهم، على حدّ زعمهم، إلى الذّكاء وإلى العبقريّة التي نجدها عند العلماء اليونان أو الغربيين من عصر النهضة أو العصر الحديث. ذلك ما كتبه ببرنارد كارا دو فو في ضميمة لنصّ بول تانّري حيث يقول: "لقد كان للعلم العربيّ، في علاقة بالوحي كما في علاقة بالتعليم [اليوناني] القديم، كل الحريّة اللّازمة لتطوّره وتحوّله. غير أنّه كان يفتقر لعنصر لا يقلّ أهميّةً عن الحريّة، وهو قوّة العبقريّة. ولعلّ الفصل الذي سوف نترجمه يكون كافيًا لبيان ما في العلم الإسلامي من ضعف ووهن عندما كان يريد أن يكون أصيلًا. إنّ نصير الدّين الطّوسي هو أحد الذين كانوا يعبّرون عن هذا العلم: إذ لـمّا كان متكلّمًا وفيلسوفًا وهندسيًّا فذًّا، كان ينبغي له، في ما يبدو، أن يتبيّن بعض السخافات في نظام بطلميوس لصالح التأمّل الخالص أو الهندسة المطبّقة على الأرصاد البسيطة مثل التي تتعلّق بالأقطار الظّاهرة. وكنا نريد أن يكون قد سدّ بعض الثغرات في هذا النّظام حتّى يثمر السّخاء الذي كان يحلو لخليفة في مقام المأمون أو لأمير منغولي في مقام هولاكو أن يغدق به على الفلكيّين. إلّا أنّه، على خلاف ذلك تمامًا، كان فكره مركّزًا على المبدأ الفيثاغوريّ القائل بكمال الحركات السّماويّة. فلم يرُق له، على سبيل المثال، أن تكون حركات غير منتظمة كثيرة للقمر أو للكواكب تفسّر بواسطة انحرافات أقطار أفلاك التدوير. وقد بدت له هذه الحركات غير كاملة للغاية وقد اجتهد في وضع حركات كرويّة محلّها. لذلك فإنّ أهميّة هذا الفصل ليست كبيرةً للغاية، غير أنّه جدير بالقراءة لغرض حب الاطّلاع"18.
ولو فتحنا مؤلّفًا واحدًا من أدبيّات تاريخ العلوم بدءًا من نهاية القرن الثّامن عشر إلى حدود النصف الأوّل من القرن العشرين، لوجدنا أشهر المؤرّخين لا يولون العلم العربيّ، ولا سيّما علم الفلك، القيمة التي هو جدير بها في كتاباتهم ولا في مقارباتهم لحركة الفكر الإنساني وللطريق الذي سلكته النظريات والاكتشافات، لتنتهي إلى ما يسمّى بالحداثة وبثورة القرن السابع عشر العلمية. فكأنّ العرب بقوا خارج الفعل التّاريخي وإن ذُكروا فللإشادة بدورهم لا غير في حفظ التراث العلمي اليوناني وحمايته من التّلف من خلال عمليّة التّرجمة (وبدرجات متفاوتة أيضًا تمتدّ من الإشادة والتنويه إلى الاستخفاف والاستهزاء). ومن أشهر المؤرّخين لعلم الفلك القديم والوسيط والحديث نذكر بايّي (Bailly) ودولامبر (Delambre) وسيديّو (Sédillot) وهوفّر (Hoeffer)، وغيرهم ممن كتبوا منذ نهاية القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر في تاريخ علم الفلك بأحقابه الثلاث المشهورة وهي القديم والوسيط والحديث. ولا يستثنى من هؤلاء أصحاب المعاجم والموسوعات في علم الفلك العام وفي تاريخ علم الفلك أو تاريخ العلوم عمومًا. أمّا في القرن العشرين فلا نحتاج إلى التذكير بأنه قبل سنة 1957 لم تكن لتوجد (إلّا ما ندر نذكر منهم ألكسندر كويريه بإشاراته لا بدراساته) دراسات ذات بال لعلم الفلك العربيّ وبقي القول الرسمي والرّأي التقليدي - بمعنى الرّأي السّائد- في تاريخ علم الفلك كما في تاريخ العلوم عمومًا يبدأ من اليونان إلى العصر الوسيط الأوروبي وعصر النهضة الأوروبيّة، ليصل إلى الثورة العلمية في القرن السابع عشر وينتهي إلى ثورات القرن العشرين وهي اللحظة المعاصرة. وإن اعتنى مؤرّخ بدور العلوم في الصين أو الهند أو لدى الفرس فللاقتصار على اعتباره من روافد ثانوية للعلوم العربيّة لأنّ مصدرها الأساسي هو اليونان. أمّا دور العلم العربيّ في العصر الوسيط فلا يخرج عن المحافظة على مخزون التراث العلمي اليوناني في حركة ترجمة، وإن ينوّه البعض بما أضافته وحفظته فقد يُلحقها البعض الآخر بالذمّ لعدم محافظتها على النّصوص الأصليّة.
فالعرب قد أنقذوا، بفعل الترجمة، هذا التراث من الاندثار والزّوال لا غير. لكأنّهم اضطلعوا لقرون عديدة بمهمّة محافظي مكتبة الإنسانيّة، بل يذهب البعض إلى اعتبار وساطتهم بدّلت النصوص الأصليّة وشوّهتها، وإذ هي سرعان ما توقّفت فذلك لأنّ لا المجتمع العربيّ الإسلامي ولا الدين الإسلامي يشجعان على طلب العلوم ولا هما يتلاءمان مع العلوم والفلسفة اليونانية. ومن أنصار هذا الرّأي، كما هو معلوم، ريمي براغ (RémiBrague) وإرنست رينان (ErnestRenan) ومؤخّرًا الكتاب "الفضيحة الأكاديمية" لسيلفان غوغنهايم (SylvainGougenheim) المعنون [أرسطو على ربوة القديس ميشال: الجذور اليونانيّة لأوروبا المسيحيّة] 2008)19. فهذا الكتاب الغريب فلسفةً وروحًا ورهانًا يكشف لنا، من جديد ولسوء الحظّ، محدوديّة تأثير الكتابات الحديثة من النصف الثاني من القرن العشرين التي كشفت في مقاربة موضوعية لتاريخ العلوم دور الفلكيين العرب المسلمين في قيام الثورة الفلكية على أيدي كوبرنيكوس. كما يكشف ضعف وقعها على مؤرّخي العلوم وصعوبة إنتاج براديغم تحقيب جديد في تاريخ العلوم تتحوّل فيه اللحظة الوسيطة من فكرة "العرب الوسطاء المحافظين" إلى "العرب الثوّار المجدّدين".
ولئن وقفنا كثيرًا على ما أخذ العرب المسلمين من اليونان – تلقّيًا وتملّكًا، محافظةً ونقدًا، تطويرًا وتحويلًا-20 فقلّما درسنا بالشكل الكافي ما أعطى العرب إلى الحضارة الغربيّة وإلى الإنسانية عمومًا. أو بالأحرى قلّما اعترف الغرب بما أخذ عن العرب، بل إنّ عدم تثبيت العرب ما أعطوه إلى الإنسانية دفع البعض إلى التّشكيك حتّى في دور العرب في الوساطة بين اليونان والغرب (أطروحة سيلفان غوغنهايم) بدعوى أنّ أرسطو – وهو رمز الإرث الفلسفي والعلمي اليوناني برمّته – لم يكن يحتاج فيه إلى الدّور العربيّ ليحفظ أو ينقل إلى الحضارة الغربيّة وإنّما كان الفيلسوف اليوناني جاثمًا على ربوة القديس ميشال – هناك بجانب التلّ المتاخم لنهر السان– وأنّه حتّى الذين اضطلعوا بمهمّة الترجمة إنّما كانوا من المسيحيين واليهود لا العرب أو المسلمين.
ج : مراجعة مفهوم الثورة الكوبرنيكيّة
والأهمّ في هذه الدراسات الجديدة المجدّدة لكتابة تاريخ العلوم العربيّة ومنزلتها ودورها في تاريخ العلوم بعامة، وفي قيام الثورة العلمية التي عادةً ما يؤرّخ لها بدءًا من كوبرنيكوس، هو إثارة أشكال تلقّي هذا الأخير للتراث العربيّ الفلكي وتأثره به، لا سيما الجزم باطّلاعه على أعمال فلكيّي "مدرسة مراغة"، حتّى إنّ البعض لا يطرح مسألة الأخذ والتأثّر من جهة الاحتمال أو الإمكان وإنّما من جهة التأكيد الثابت بالقول: "إنّ السّؤال عندئذ ليس هل، وإنّما متى وأين وبأيّ شكل أخذ [كوبرنيكوس] عن نظريّة مراغة" (Hartner). ويضيف البعض قائلًا: "وبالمعنى الحقيقي، يمكن أن يُعتبر كوبرنيكوس بالتأكيد أشهر أتباع "مدرسة مراغة" إن لم يكن آخرهم" (Neugebauer). والأساس الذي يقوم عليه هذا الاستنتاج هو التشابه الصّارخ إلى حدّ التماثل التام، من الناحية التقنية، بين ما وضعه كوبرنيكوس في كتابيه [الشّرح الصّغير] و[في ثورات الأفلاك السّماويّة] وما توصّل إليه من قبلُ أعلام "مدرسة مراغة" الفلكيّة، لا سيّما ما ورد في أعمال ابن الشّاطر قبل قرنين أو ثلاثة من قبلُ، تماثل تامّ يكاد ينسف بجدّة علم الفلك الكوبرنيكي لولا فكرة مركزية الشمس التي يجمع أغلب المؤرّخين، لا جميعهم والحق يقال، على أنّها لم تكن لتخطر ببال علماء الهيئة العرب. وعلى هذا الأساس يخلص صليبا إلى القول (ص. 372) إنّه لا يمكن فهم الفلك الكوبرنيكي حقّ الفهم دون الوقوف على ما أنجزه الفلكيّون العرب عمومًا وأعلام "مدرسة مراغة" بالخصوص من الناحيتين الرياضيّة والفنيّة. فلا غرابة أن يتحدّث جورج صليبا عن "ثورة مراغة" بالمعنى والحماس نفسيهما والثبات الذي يتحدّث عنه مؤرّخو العلوم الحديثة عن الثورة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر ويقصدون الثورة الكوبرنيكيّة أو الثورة الغاليليّة أو الثورة النيوتنيّة21.
3: من جديد في الثورات العلمية وفي كتابة تاريخ العلوم
ح: "كوبرنيكوس على أكتاف العباقرة"
لقد أثبت مؤرّخو علم الفلك المعاصرين كما ذكرنا، وهم ممّن يُعدّون حجّةً في هذا الحقل من الدّراسات، أنّ أعمال أمثال مؤيّد الدين العرضي (توفي سنة 1266) ونصر الدّين الطّوسي (توفّي سنة 1274) وقطب الدّين الشّيرازي (توفّي سنة 1311) والمؤقّت ابن الشّاطر (توفّي سنة 1375) وغيرهم من علماء فلك الشّرق العربيّ الإسلامي الذين ينتمون إلى ما يسمّى "مدرسة مراغة" الفلكيّة، أو كذلك علماء الفلك من الغرب العربيّ الإسلامي الذين عاشوا في المغرب والأندلس، كان لها دور أساسيّ في قيام الثّورة الفلكيّة، وذلك خلافًا لما ذهب إليه مؤرّخو العلم عمومًا إلى حدود القرن التاسع عشر، وممن لا يزال إلى اليوم يسلك مسلكهم بضرب من العناد الأيديولوجي القاصر على إنتاج قراءة موضوعية غير متحيّزة لتاريخ العلوم.
ومن اللّافت أنّ جميع الدراسات حديثة العهد للتراث العلمي الفلكي العربيّ تنتهي إلى البحث عن أشكال العلاقة الممكنة بين أعمال مدرسة مراغة وعلماء الأندلس من جهة وأعمال كوبرنيكوس من جهة أخرى والتساؤل ليس فقط عن إمكان - وإنما كذلك عن كيفيّة - تلقّي الثاني لنتائج أعمال سلفه من الفلكيين الغربيّين والعرب.
ففي دراسة قيّمة حول [مصدر نظريّة الكواكب الكوبرنيكيّة ومسوّدتها الأولى: ترجمة الشرح الصّغير مع تعليق] كشف سواردلو أهميّة الاعتراض على نظرية بطلميوس ونماذجه الفلكيّة من قبل فلكيّي "مدرسة مراغة" واعتبر أنّ دراسة الأثر الكوبرنيكي من جهة تكوينه وبنائه قد اتّخذت اتجاهًا جديدًا ومثيرًا بعد اكتشاف أعمال هذه المدرسة. غير أنّ الأسئلة التي طرحتها هذه الاكتشافات أكثر من الأجوبة، لغياب المعرفة الدّقيقة بالعلماء الذين نقلوا أو ترجموا أو ألهموا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فكر كوبرنيكوس بما توصّل إليه علماء "مدرسة مراغة" من نتائج مغايرة للعلم السائد البطلمي آنذاك. والطّريق الذي يسلكه سواردلو في تعقّب هذا الاستلهام من علماء "مدرسة مراغة" أو التلقّي للإرث الفلكي العربيّ ("زوج الطّوسي") هو إيطاليا وتحديدًا في رسالة حول نظريّة الكواكب لأميكو (Amico) حيث نجد استعمالاً لهذا "الزوج" ذلك أنّ كوبرنيكوس قد عاش في إيطاليا ما بين 1496 و 1503 ويرجّح أنّه كان على دراية بما نقل من نظرية الكواكب لمدرسة مراغة22.
"لقد كان في متناول كوبرنيكوس، لحسن حظّه، زوج الطّوسي"، ذلك ما كتبه أوتّو نيغاباور23 عند مناقشته الطّريقة التي توصّل بها كوبرنيكوس في نظرّية عطارد إلى تركيب حركتين في حركة واحدة. ويلاحظ كينيدي أنّ "نموذج حركة القمر عند كوبرنيكوس الذي كان متفوّقًا كليًّا عن نموذج بطلميوس هو نموذج ابن الشّاطر"24. بهذين الإقرارين تحديدًا بدأت غرازينا روزينسكا مقالها المعنون "نصير الدين الطّوسي وابن الشّاطر في كراكوفيا؟"25 وهي تفتح الطّريق (والصّيغة الاستفهاميّة للعنوان ذات دلالة ههنا) أمام مسألة تلقّي الإرث العربيّ الفلكي في البلد المنشأ لكوبرنيكوس – مدينة كراكوف ببولندا – مبيّنةً أنّ فلكيّي مدينة كراكوف آنذاك، أي في القرن الخامس عشر، كانوا أكثر اهتمامًا بأعمال الفلكيّين العرب المسلمين من اهتمامهم بمصنّفات الفلكيّين الغرب الأوروبي26.
لا شكّ أنّ الميل إلى الاعتقاد باطّلاع كوبرنيكوس على أعمال فلكيّي "مدرسة مراغة" وما انتقل منها من نصوص أو آراء أو نماذج تفسيريّة أو رسوم بيانيّة بالترجمة والقراءة مباشرةً أو بالسماع والرواية عبر علماء الأندلس والغرب الإسلامي (عرب أو غير عرب، مسلمين أو يهود أو مسيحيّين...)، عمومًا بدل الاكتفاء بالتسليم بالالتقاء في الاكتشاف على سبيل المصادفة على نحو ما يسمّيه العرب "وقوع الحافر على الحافر"، يدعونا إلى بلورة برنامج بحث متكامل وواسع المدى في جرد آلاف النصوص والمخطوطات العلمية العربيّة المودعة في مختلف مكتبات العالم، ومنها أهمّ المدن الألمانية والإسبانيّة والإيطالية والفرنسية والتركية والإيرانية والهندية وغيرها التي لا تزال مجهولةً إلى اليوم، ولم يطّلع عليها المؤرّخون والعلماء – والأولى بالعرب المسلمين النّهوض إلى هذا المشروع قبل غيرهم عساهم يستنهضوا هممهم بما أنجز أسلافهم ويستعيدوا دورهم الحضاري الذي كان لهم من قبلُ- لأسباب متعلقة بحدود الامتلاك اللّغوي أو البُعد الجُغرافي أو ضعف وسائل التّمويل أو غياب سياسة وطنية عربية واضحة في هذا الاتّجاه.
خ: إعادة كتابة تاريخ العلوم: موجّهاتُ خطّة عمل...
وممّا نخلص إليه بعد صليبا (ص. 367) في مقاله حول الدّور الريادي الذي اضطلع به الفلكيّون العرب في النهضة العلمية وفي قيام الثّورة العلميّة الحديثة، إنّما هو عدم جدوى وعدم وجاهة التساؤل عمّا هو يونانيّ في علم الفلك العربيّ ولا عمّا هو عربيّ في علم الفلك الأوروبي؛ لأنّ خطوط التّماسّ والتأثّر والتّأثير متداخلة إلى أبعد حدّ وعندئذ يصبح الانتباه إلى التاريخ أولى من الاهتمام بالجغرافيا. يعني أنّه بدل الاجتهاد في تحقيق ما يرجع إلى هذه الجماعة العلمية، أو تلك من اكتشاف أو تصوّر حريّ بنا أن نرسم تاريخ تشكّل النظرية العلمية، وأن نتتبّع مسارها المعقّد في ثنايا النصوص وطوايا الفكر وشذرات الآراء.
ما تقدّم يدعونا إلى إعادة النظر في تاريخ علم الفلك العربيّ بل يؤكّد لنا أنّ تاريخ علم الفلك العربيّ لم يُكتب بعدُ. وإذْ نذهب إلى هذا القول فنحن نقصد أنّه لم يكتب على نحو ما كتب كويريه مثلًا تاريخ الفكر العلمي في التاريخ الأوروبي، وذلك من خلال تتبع حركة النصوص والترجمات وتحليل المفاهيم وربطها بالمنظومات المعرفية والمرجعيات الميتافيزيقيّة الكبرى التي تنهل منها أو تؤثّر فيها. ذلك أنّ طريق اكتشاف الحقيقة يمرّ حتمًا باكتشاف الخطأ وتصحيحه، بل إنّ اكتشاف الخطأ وتصحيحه أهمّ بكثير من اكتشاف الحقيقة، كما علّمنا كويريه الذي درس تاريخ الفكر العلمي وكشف لنا ما قبل تاريخ قيام الثّورة العلمية الحديثة.
إنّ هذا التّاريخ لم يكتب بعدُ حقيقةً ونحن نحتاج في ذلك إلى كويريه عربي يتتبّع "حركة الفكر في تمشّيه الخلاق"، حيث يوفَّق هذا الفكر حينًا ويفشل حينًا آخر، يقترب من الحقيقة تارةً ويبتعد عنها طورًا. كويريه عربي يقتفي أثر حركة الفكر لا في "عالم الأذهان"، فحسب بالاهتمام بالأفكار والمفاهيم والنظريّات والتصوّرات والنّماذج التفسيريّة، وإنّما كذلك في "عالم الأعيان" من خلال تتبّع حركة النصوص والترجمات عند أهلها الفلكيين وفي بلدانها ومكتباتها ومراكزها... إذ نحن على يقين بوجود آلاف النصوص من كتب ومخطوطات ورسائل وشروح وضمائم بعضها مذكور وإلى اليوم مفقود، وبعضها موجود ومنسوب إلى غير أصحابه، وبعضها لا يزال مجهول المؤلف، وغيرها من الأوضاع التي هي عليها المؤلفات والمخطوطات من التراث العالمي في مكتبات البلدان الأوروبيّة والآسيويّة والإفريقيّة.
ونحن نحتاج إلى ديمتري غوتاس عربي كذلك يكتب تاريخ حركة ترجمة التراث العربيّ إلى الغرب اللّاتيني، أهمّ روّادها، إطارها التاريخي والاجتماعي، أبعادها الثقافيّة، دوائر الحث إليها والتحفيز عليها، مراكز الاهتمام بها وتشجيعها، حتى نرسم حركتها ونتتبّع مسارها المعقّد من المكتبات العربيّة إلى المكتبات الأوروبيّة، عسانا نقف على وجوه تأثير العرب في الثقافة والعلوم الغربية وندرك مدى مساهمتهم في تطوير علم الفلك عمومًا. إنّ هذا التاريخ الجديد هو وحده الكفيل بكشف طبيعة الدور الحقيقي للعرب في لحظة تاريخية حاسمة والإجابة عن سؤال : هل اقتصر دور العرب على "المحافظة والنّقل" أم كان دورهم " الثّورة والتجديد"؟
ولا بدّ من التذكير بأنّنا إذْ نحتاج إلى إعادة كتابة تاريخ العلوم العربيّة فليس فقط من أجل إنصاف لحظة تاريخيّة ما أو جماعة علميّة مخصوصة واعتبار دورها الحقيقي في تاريخ العلوم، وإنّما بالأساس من أجل قراءة موضوعيّة لتمشّي العقل الإنساني في فهم واستيعاب مشهديّة الكون وهيئته بغضّ النظر عن اللغة التي تكلّم بها العلم أو الجهة الجغرافيّة التي طوّرته أو المجتمع الذي حفّز إليه أو السياق التاريخي الذي تكوّن فيه. إنّ ما يدور عليه الأمر ههنا هو كتابة تاريخ الثورات العلميّة الحديثة – التي عادةً ما أُرّخ لها بدايةً من عمل كوبرنيكوس وانتهاءً بعمل نيوتن، مرورًا بأعمال كبار الفاعلين فيها أمثال غاليلي وديكارت وكبلار لايبنيتز وغيرهم – وكتابة ما قبل تاريخها.
ولئن خلص معظم المؤرّخين الجدد للفلك العربيّ إلى تأكيد تلقّي كوبرنيكوس الفلك العربيّ وبقي البحث قائمًا حول شكل هذا التلقّي (اطّلاع على نصّ أصلي، أو عن طريق شرح، أو نصّ مترجم إلى اللّاتينيّة أو العبريّة أو الإيطاليّة أو الإسبانيّة، أو بالسماع والرّواية، إلخ...) وزمانه ومكانه، فلعلّه يحسن بنا عدم الاكتفاء بهذه النتيّجة وإنّما اقتراح خطّة عمل وبحث وتقديم توصيات يمكن، إذا وجدت هوى عند أهل العزم وأصحاب القرار، أن تساعدنا على إعادة كتابة التاريخ الإنساني لا استعادةً لمجد مزيّف بل وعيًا بدور حقيقيّ، حقيق بنا أن نعي به، عسانا نتحرّر من اليأس والقصور ونستنهض الهمم والعزائم:
إحداث مركز الدّوحة العالمي للدراسات في تاريخ العلوم والفنون (تشبيك خبرات عربيّة وعالميّة، تجهيزه بمكتبة إلكترونية متخصّصة ومشبّكة مع مكتبات عالمية، دعم إنجاز دراسات، تنظيم مؤتمرات دولية في تاريخ العلوم والفنون، ترجمة مؤلفات وموسوعات في الأدب الابستيمولوجي وتاريخ العلوم، تنظيم دورات تكوينيّة في اللّغات القديمة والحديثة وفي الترجمة وتاريخ العلوم...).
إحداث مراكز فرعية وطنية مشبّكة للتنسيق وتوحيد الجهود والأنشطة في مجال تاريخ العلوم والفنون واللّغات والترجمة.
دعم التعاون بين الجامعات والمنظمات ومراكز الدراسات والبحوث ومراكز الترجمة على المستويين العربيّ والدولي.
إنجاز الموسوعة العالميّة لتاريخ العلوم والفنون باللغة العربيّة.
إطلاق حملات واسعة النّطاق لتجميع شتات التراث العربيّ والإنساني من نصوص ومخطوطات وكتب مذكورة ومفقودة، من خلال القيام بمسح كامل لمخزون أكبر المكتبات والجامعات والمراكز البحثيّة في جميع الدّول الغربيّة والعربيّة والإسلاميّة، وعبر اتفاقيات شراكة وبرامج بحوث ودراسات مشتركة بين المكتبات ومراكز البحوث والدراسات في جميع البلدان العربيّة والعالمية.
وضع قاعدة بيانات لجميع المخطوطات والمؤلفات والكتب والرسائل والوثائق والأدوات والآلات التي كانت مستعملةً عند العرب أو ذات صلة بالعلوم العربيّة.
ضبط فهرست النصوص والمخطوطات والرسائل العلمية (المؤلّفون، الشراح، المترجمون، الملخّصون) في لغاتها العربيّة الأصلية وفي اللّغات التي ترجمت إليها مثل العبرية واللّاتينية والفارسية والتركية والألمانية والإيطالية والإسبانية والإنكليزية والفرنسية والرّوسيّة وغيرها...
الاطلاع على التراث العلمي الإنساني (الغربي والشرقي) باللغات العبرية والفارسية والهندية واللّاتينية ورصد مواقع التّأثير وخطوط التّماسّ ومسارات التلقّي المعرفية (المفهوميّة والمنهجيّة) والفنية (الأدوات والآلات).
خاتمة
إنّ خطّة العمل هذه إذا ما وجدت هيكلًا يحتضنها وتمويلًا يُيسّر عملية إنجازها وأصحاب قرار يدعمون سياسة تنفيذها، قد تكون كفيلةً بتجميع الجهود والخبرات والإمكانيات والمعطيات من أجل تغيير مشهديّة تاريخ الأمم والحضارات، ومعاودة كتابة تاريخ العلوم على نهج علمي موضوعي غير متحيّز لأمّة ولا لعرق أو ثقافة أو دين. وهذه الخطة هي التي سترشدنا إلى فهم طبيعة تاريخ العلوم وحركة العقل في التاريخ وتنسيب القراءات القائمة على القطيعة والثورة أو التواصل والتراكم والتطوّر. وهذه الخطة إذا ما أُنجزت هي التي ستساعدنا على فهم تعقّد المسار التاريخي بدل الوقوع في اختزالية منطق الانتماء الجغرافي أو العرقي أو الدّيني، وما يعني ذلك من مباشرة تاريخ العلوم بما هو جزء من تاريخ الإنسانية. ونحن نلحّ على أنّ السّعي إلى إعادة موقع العرب في هذا المسار التاريخي ليس من باب العنتريات وأوهام السبق العلمي المزيّف بل من أجل استعادة وعيٍ بحقيقة دور ثقافي وحضاري يُحفّزنا من جديد إلى الانخراط الفاعل في التّاريخ الإنساني. وهذه الخطّة هي الكفيلة برسم مشهد جديد لتاريخ العلوم العربيّة من أجل براديغمات ابستيمولوجيّة جديدة قائمة على التعدّد والكثرة والاختلاف مقابل المقاربة الكلاسيكيّة القائمة على المركزيّة الأوروبيّة.
لسنا نزعم ههنا طمس الثّورة الفلكية الكوبرنيكية، ولا تخيّل دور لجماعة علميّة لم يكن يسيرًا لها ولا هي كانت أهلًا له، ولا ادّعاء استعادة مفهوم السلف المبشّر وظيفة مّا في كتابة تاريخ العلوم بعد أن عافانا كانغيلام وكويريه كلاهما من مثل هذا الفيروس، ولا ردّ لحظة الحداثة وطرافتها وأصالتها وجدّتها إلى فكر العصر الوسيط بضرب من الانتصار إلى القراءة التواصليّة لتاريخ العلوم التي تردّ ثورات الحاضر إلى تباشير الماضي، ولا التوهّم أنّ كل اكتشاف أو نظريّة أو حقيقة إنّما كانت عندنا قبل أن تنتقل إلى غيرنا الذي أخذها عنّا وأخفى بعدها كلّ السبل للكشف عن نقلها وتلقيها وأخذها... وإنّما غرضنا هو تدبّر حركة الفكر العلمي وتعقّب مساراته الحقيقيّة، في كلّ تعقيداتها والتواءاتها، مهما يكن التاريخ ومهما تكن الجغرافيا، باعتباره شاهدًا على حركة الفكر الإنساني الذي ينتقل ويتطوّر، ينجح ويخفق، يسير ويتراجع، يتوقّف وينطلق من جديد، يسرع ويسير الهوينا، وفي كلّ مرّة تساهم فيه جماعة علمية ومجموعة بشرية شرقية كانت أو غربية، شمالية أو جنوبية، مهما كان عرقها أو دينها أو لغتها أو لونها.
الهوامش
1الفصل المذكور من كتاب لنصير الدّين الطّوسي يصف فيه ما يسمّى "بزوج الطّوسي" ونموذج حركة القمر عنده، وهو فصل من كتاب ترجمه لأوّل مرّة إلى الفرنسيّة كارا دي فو (CarradeVaux) ونشره ضميمة سادسة في كتاب بول تانّري "بحث في تاريخ علم الفلك القديم، 1893، ص. 337-361" (PaulTannery, Recherche sur l’histoire de l’astronomie ancienne, Paris, 1893, pp. 337-361)..
2اُنظر فيكتور روبرت:
Victor Roberts, "The Solar and Lunar Theory of Ibn al-Shatir : A Pre-Copernican Copernican Model", Isis, vol.48, N°4, 1957, pp.428-432 ; S.E. Kennedy & Victor Roberts, "The Planetary Theory of Ibn al-Shatir", Isis, vol.50, N°3, pp.227-235.
3اُنظر إدوارد كينيدي:
E. S. Kennedy, "Late Medieval Planetary Theory", Isis, Vol.57, N°3, 1966, pp.365-378.
4اُنظر نوال سواردلو:
Noel M. Swerdlow, "The Derivation and First Draft of Copernicus’s Planetary Theory: A Translation of the Commentariolus with Commentary", Proceedings of the American Philosophical Society, Vol.117, N°6, 1973, 423–512; " Ptolemy on Trial", The American Scholar, Vol.48, N°, 1979, pp.523-531.
5انظر نوغاباور:
Otto Neugebauer, Exact Sciences in antiquity, 1957.
6انظر فؤاد عبّود:
F. Abbud, "The Planetary Theory of Ibn al-Sahatir. Reduction of the Geometric Models to Numerical Tables", Isis, vol.53, pp.492-499.
7 انظر ويلي هارتنر:
W. Hartner, “Nasir al-Din al-Tusi Lunar Theory”, Physics, 1969, 11, pp.287-304.
8 انظر جورج صليبا:
George Saliba, "The Rôle of Maragha in the Development of Islamic Astronomy: A Scientific Revolution Before The Renaissance", Revue de Synthèse, IV S. N°3-4, 1987, pp.361-373.
9 اُنظر ماريو دي بونو:
Mario de Bono, "Copernicus, Amico, Fracastoro and Tûsi’s Device: Observations on The Use and Transmission of a Model", Journal of The History of Astronomy, XXVI, 1995, 133-154.
10 انظر جميل رجب:
F. Jamil Ragep, "Copernicus and his Islamic Predecessors: Some Historical Remarks", History of Science, XLV, 2007, pp.65-81.
11 انظر نضال قسّوم:
Nidhal Guessoum, Copernicus and Ibn al-Shatir: Does the Copernican Revolution Have Islamic Roots? The Observatory, 128, 2008, pp.231-239.
12محمّد بن ساسي، الاعتراف التّاريخي، المجلّة التونسية للدراسات الفلسفيّة، عدد 54-55، 2014-2015، ص. 7-29، والثورة العلميّة من منظور جديد، مجلّة البديل، عدد، 2، 2012، ص. 121-134، عدد 3، ص. 113-122، عدد 6، 2014، ص. 131-144.
13أوّل من أطلق هذه التّسمية على هذه المدرسة الفلكية هو فيكتور روبرت في مقاله (VictorRoberts, "TheplanetaryTheoryofIbnal-Shatir: APre-CopernicanCopernicanModel", Isis, 57, 1966, p. 210) ثمّ أصبحت هذه التسمية مكرّسةً ومشتركةً بين الجماعة العلميّة ومؤرّخي علم الفلك العربي بعد مقالات كينيدي (E. Kennedy, "LateMedievalPlanetaryTheory", Isis, 57, 1966, p. 365). وإذْ يشيد مؤرّخو العلوم العربيّة في النصف الثاني من القرن العشرين بأعمال أعلام هذه المدرسة الفلكيّة القيّمة التي تركّزت بالأساس حول نقد بطلميوس والتشكيك في فلكه (لا سيما أخطائه في تحديد قيم ميلان مسار الشّمس ومبادرة النجوم الثابتة ونقطة معدّل المسير وغيرها مما أثاره الفلكيون العرب من أخطاء وتناقضات، لا يمكن أن يقوم عليها علم الهيئة في معناه الفيزيائي والحقيقي ومنها دوران كرة ما دورانًا منتظمًا حول نقطة ليست مركز الدوران...)، فإنّ صليبا يتحدّث بصريح العبارة عن "ثورة مراغة" (ص. 366) معتبرًا كتاب ابن الهيثم الموسوم الشكوك على بطلميوس الإعلان الرسمي لنهاية الفلك البطلمي وبداية فلك جديد ما بعد بطلمي وهو الطريق الذي سيقود إلى كوبرنيكوس.
14انظر:
B. Goldstein (1967), George Saliba (1979), (1987), (1987), (1989), (1994), Abdelhamid Sabra (1984), Owen Gingerich (1986), J. Samso (2001), etc.
15انظر:
Francis J. Carmody (1951), Fuad Abbud (1962), Victor Roberts (1966), W. Hartner (1969), George Saliba (1987), (1991), N. Swerdlow (1987), Khaled Maghout (1989-1990), etc.
16 انظر:
E. S. Kennedy & Victor Roberts (1959), E. S. Kennedy (1966), O. Neugebauer (1968), W. Hartner (1973), (1975), N. Swerdlow (1973), Grazyna Rosinska (1974), George Saliba (1984), (1987), (2002), Mario Di Bono (1995), Jamil Ragep (2007), Nidhal Guessoum (2008), Michal Kokowski (2012), etc.
17ذلك هو الرّأي السّائد لدى كارا دو فو (CarradeVaux) ودراير (Dreyer) وفرانسوا نو (FrançoisNau) وغيرهم ممن كتبوا في تاريخ علم الفلك. وقد كتب هذا الأخير عن الفلكيّين العرب في معرض حديثه عن بار هبراويس ما يلي: "في القرن الثاني عشر (ينبغي لنا أن نقرأ القرن الثالث عشر)، في العصر الذي كان يكتب فيه بار هيبراوس (Bar-Hebraeus)، كان العرب منشغلين بالفلك منذ ما يناهز أربعة قرون وقد ذكر صاحبنا البعض من نتائج أعمالهم. غير أنّ هذه النتائج تبدو غير ذات بال. فالكتّاب العرب الذين نعرفهم كانوا بالخصوص شرّاحًا ومنجمين هواةً، ولم نكن نعجب بأعمالهم إلّا لعدم معرفتنا بأعمال اليونان ونماذجهم. يمكننا أن نعتبر درس علم الفلك (Cours d’astronomie) الحالي ملخّصًا لأعمال بطلميوس (مع بعض الإضافات التي ندين بها للعرب)". (p. XIV).
18 وردت هذه "الضّميمة" التي كتبها برنار كارا دو فو في كتاب بول تانّري: [بحوث في تاريخ علم الفلك القديم]
Bernard Carra de Vaux, Appendix (VI) in, Paul Tannery, Recherches sur l’histoire de l’astronomie ancienne, Paris, Gauthier, 1893, p.337-8.
19انظر:
Sylvain Gouguenheim, Aristote au Mont Saint Michel. Les racines grecques de l‘Europe chrétienne, Paris, Seuil, 2008.
20لا شكّ أن الأدب التّرجمي، تنظيرًا وتأريخًا، تطوّر بشكل لافت بدايةً من النّصف الثّاني للقرن العشرين إلى اليوم وقد ظهرت دراسات عديدة حول ترجمة التراث الإنساني العلمي والفلسفي على وجه الخصوص من اليونان إلى الثقافة العربيّة ومنها إلى الغرب اللّاتيني التي عادة ما نبدأ منه كتابة تاريخ العصر الحديث والتأريخ للثّورة العلمية الحديثة. ولعلّ كتاب ديمتري غوتاس المعنون الفكر اليوناني والثقافة العربيّة: حركة الترجمة اليونانية العربيّة في بغداد والمجتمع العباسي المبكّر (ق2 – ق 4 ه / ق 8 – ق 10 م) (1998 والنسخة العربيّة سنة 2003)، يُعدّ من أهمّ الدراسات التي يرجع إليها الباحث إذا رام الوقوف على تلقّي العرب المسلمين للتّراث اليوناني العلمي والفلسفي، ودور حركة التّرجمة في تطوير هذين المجالين، وارتباط نموّها بعوامل اجتماعيّة وسياسيّة وتاريخيّة وفكريّة وما أدّت إليه من قيام عصر النّهضة الأوروبيّة.
21بخصوص أعمال صليبا انظر بالخصوص:
George Saliba, " The First Non-Ptolemaic Astronomy at the Maraghah School ", Isis, Vol.70, 4, 1979, pp.571-576; " The Rôle of Maragha in the Development of Islamic Astronomy : A Scientific Revolution Before The Renaissance ", Revue de Synthèse, IV, N°3-4, 1987, 361-373 ; " The Astronomical Tradition of Maragha : A Historical Survey and Prospects for Future Research ", Arabic Sciences and Philosophy, Vol. I, 1991, pp.67-99;" Greek Astronomy and the Medieval Arabic Tradition : The medieval Islamic astronomers were not merely translators. They may also have played a key in the Copernican revolution ", American Scientist, vol.90, N°4, 2002, pp.360-367.
22انظر سواردلو، مرجع مذكور، ص. 424.
23أوتّو نيغاباور:
Otto Neugebauer, The Exact Sciences in antiquity, Brown University Press, 1957(2nd. ed.), p.203.
24كينيدي:
E. S. Kennedy, " Late Medieval Planetary Theory ", Isis, 1966, 57 : pp.365-378, p.377.
25غرازينا روزينسكا:
Grażyna Rosińska, " Nasīr al-Dīn al-Ṭūsī and Ibn al-Shāṭir in Cracow? " Isis, Vol. 65, No. 2 (Jun., 1974), pp. 239-2.
26وتذكر المؤلّفة أنّه رغم أنّ عملي نصير الدّين الطّوسي (1201-1274) وابن الشّاطر (1304-1375) لم يترجما وقتئذ إلى اللّاتينيّة، فإنّ أعمال غيرهم من الفلكيّين كانت معلومةً ورائجةً في الأدب اللّاتيني. وفي جرد للرسائل الفلكيّة المشهورة في كراكوف في القرن الخامس عشر أنجزه مركز الدراسات الكوبرنيكيّة في أكاديميّة بولندا للعلوم، تذكر صاحبة المقال أعمال ماشاء الله، وأبو معشر، وأبو بكر، وسهل بن بشر، والفرغاني، والكندي، وابن الهيثم، وعلي ابن أبي الرجال، وعلي بن رضوان، وجابر بن افلح، وتذكر دراسات أخرى بالإضافة إلى هؤلاء جميعًا الفارابي، والغزالي، والبتاني، والكبيسي، والزرقلي، وعلي بن رضوان، وغيرهم. وقد كانت أعمال هؤلاء الفلاسفة والعلماء من الفلكيّين والرياضيّين والأطبّاء متداولة عند أهل العلم وأساتذة الفلك والرياضيات والطبيعيات بجامعة كراكوف التي كان كوبرنيكوس مسجّلًا بها من سنة 1491 إلى سنة 1495 وتذهب الباحثة إلى مناقشة ما أورده بيركنماير من إمكان أخذ كوبرنيكوس نظرية القمر من أدلبرتوس البردزوي (AdalberusofBrudzewo) في شرحه كتاب نظريّة الكوكب الجديد لبويرباخ (Peurbach, Theoricae novae planetarum, 1482) وهو الذي كان على علم بتركيب الحركات الدّائريّة إلى حركة على الاستقامة وهو ما يماثل الحلّ الذي ذهب إليه الطّوسي من قبلُ وسيستعمله كوبرنيكوس في [الشّرح] وفي [فيثورات]. غير أنّها تنسب هذا الرّأي وترى أنّه من المرجّح أن يكون سانديفوجيوس (Sandivogius) هو الذي أخذ عنه كوبرنيكوس مع شيء من التواصل والتطوير وتبقي على السؤال مطروحًا بخصوص اطّلاع سانديفوجيوس على أعمال الطّوسي وابن الشّاطر أو تطوير كوبرنيكوس ما وصل إليه سانديفوجيوس على أساس ما وصل إليه من كتابات علماء الفلك المسلمين. انظر كذلك:
G. Rosinska, " Sandivogius de Czechel et l’école astronomique de Cracovie vers 1430 ", Organon, 1973, 9, pp.217-229 ; Charles E. Butterworth & Blake Andrée Kessel, The Introduction of Arabic Philosophy into Europe, E. J. Brill, Leiden, 1994, pp.120-121.