ملحمة "النيبلونجن - ليد"

ملحمة  "النيبلونجن - ليد"

تهدف هذه المشاركة إلى لفت الانتباه إلى عمل ملحمي مركزي الحضور في الثقافات الأوروبية عمومًا، والثقافة الجرمانية خصوصًا. نحن نعلم اليوم أن الملاحم الشعرية من أعظم ما أنتجته الثقافة الإنسانية، فهي تشكل مخزونًا هائلًا من الدلالات الرمزية التي يمكن من خلال تفكيكها، وإعادة بنائها، التعرف إلى المستويات المتعددة للوعي الإنساني، فهي تعطينا فكرة عن معتقدات الشعوب، ورؤيتها للكون والطبيعة والمخلوقات، وكذلك تعكس مستوى التطور الاجتماعي ومدى الثراء اللغوي، كما أنها تتضمن إشارات كثيرة إلى أحداث ووقائع تاريخية إلا أنها تأتي متشابكة مع الأساطير والمتخيلات الشعبية، وهي تعكس كذلك مستوى تطور فن الشعر وفن الغناء لدى الشعوب، لذلك نجد أن أعظم كتب اليونان الأوديسة والإلياذة، وأعظم كتب الترك ملحمة ما ناس، وأعظم كتب العرب المعلقات.. إلخ. وبالمثل فإن أعظم كتب الثقافة الجرمانية هي العمل الذي هو موضوع هذه المقالة، والذي يقال عنه إنه بمنزلة "الإلياذة الألمانية".

لا يعرف اليوم على وجه التحديد من كتب هذا النص. ثمة فرضيات كثيرة منها تقول إنه أحد الشعراء الفرسان، كان يعيش في كنف مطران باساو في حدود القرن الثاني عشر. ولعله من أصل نمساوي أو من ولاية بافاريا الألمانية "بايرن"، أو شاعر غنائي كان يرافق الحملات العسكرية، أو شاعر مقيم في البلاط الملكي. وقيل إنها عمل شعبي تعاقب عليه شعراء كثر، وكل واحد منهم رفده بدلوه حتى وصل إلى شكله الحالي. ثمة صعوبة بالغة اليوم في تحديد زمن كتابة هذا النص بشكل دقيق، والفرضيات تعددت حول زمن كتابته، فثمة من يرى أن النص يرجع في أحداثه إلى القرن الرابع للميلاد، وأخرى للعاشر للميلاد أو الثاني عشر، إلا أن الثابت أنه أعيد اكتشافه في القرن الثامن عشر مجددًا، ويعدّ أقدم وأفصح نص معروف حتى اليوم في اللغات الجرمانية العليا الوسيطة كافة، كما أنه يشكل في بعض أجزائه وثيقة تاريخية شديدة الأهمية حول معتقدات الشعوب الجرمانية وبعض الشعوب السلافية، والعلاقة بين شعوب وثنية وأخرى مسيحية، وقد ضمته منظمة اليونسكو إلى قائمة التراث الإنساني العالمي.

 لم يسلم العنوان من الخلاف حول معناه الدقيق، فالبعض ذهب إلى  أن "النيبلونجن" هي اسم الشعب،  في حين يكون المعنى الحرفي هو "أغنية الضباب"، ويكتب باللغات الأوروبية على هذا النحو (Nibelungenlied ولكن أخذنا أكثر الآراء إجماعًا بين اللغويين الألمان بأن العنوان هو "ملحمة أرض الضباب"؛ لأن الشاعر الذي اختار العنوان إنما قصد بـ"الضباب" بالأرض المنخفضة من منطقة نهر الماين والتي صفتها المعروفة أنها أرض مغطاة غالبًا بالضباب. وثمة ما يشبه النزاع الثقافي بين هولندا وألمانيا حول أحقية كل واحدة منهما بأبطال الملحمة، إذ إن أحد أبطال الملحمة الأساسيين "زيغفريد" يفترض أنه من أصل هولندي، ونجد ذكرًا لثلاث ممالك واحدة هي اليوم جزء من أرض المجر أو ما كان يسمى مملكة شعب الهون، وأخرى جزء من أرض هولندا، وأخرى من أرض ألمانيا والنمسا، ولكن الملحمة تتشابك مع مختلف الأساطير في أوروبا الغربية والوسيطة من منطقة البلقان إلى إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والدول الإسكندافية إلى جانب ألمانيا والنمسا وهنغاريا، وأبطال الملحمة ينتمون إلى شعب "البورجوند" وهو أحد العشائر المتفرعة عن قبائل "الفندال" الجرمانية، التي أسست لها مملكة قوية في محيط نهر الماين ما بين 250- 437 للميلاد، وانتهت بالدمار على يد شعوب الهون الشبه المتوحشة.

تتكون الملحمة من 38 فصلًا أو جزءًا أو مغامرة، ومن 14 ألف بيت شعري أو عشرة آلاف بيت على حسب التقسيم الذي يراه المترجم أو الناشر، وهي مترجمة إلى معظم لغات العالم الحية، ومن المؤسف أنها لم تترجم -حتى الآن- إلى اللغة العربية، وسبق التواصل مع قسم الترجمة في معهد غوته في ألمانيا، قبل نحو عقد من الزمان، وكان ردهم آنذاك ذا مغزى: "(...) إذا كانت ثقافتكم مهتمة بمعرفة ما يجري في العالم، ومهتمة بالتواصل مع الثقافات الإنسانية الأخرى، فتقع عليها مهمة تمويل ترجمة الأعمال الملحمية للشعوب الأخرى.. لذلك ننصحكم بالتواصل مع دور النشر في العالم العربي". وما جانبوا الصواب في هذا الرد.

ولا يخفى على دارسي الأدب الإنكليزي "التناص" في العنوان مع قصيدة إليوت "أرض الخراب أو اليباب"، مع تأكيد اطلاع الأخير على نص "ملحمة أرض الضباب"، والنص متوفر بعدة لغات من أصل تسع كان يجيدها إليوت. بقي أن نشير إلى أن هذه الملحمة عُرضت في أعمال سينمائية ودرامية كثيرة بلغات متعددة، إلا أن الأعمال السينمائية أو الدرامية أو كأفلام كرتون للأطفال، كانت تركز على جانب الإثارة وتخضع لشروط الإنتاج، فتبرز الأمور الأسطورية وتجترح اختزالًا مخلًّا بالأحداث، فهي لا تغني بأي حال من الأحوال عن النص المكتوب. كما أنه لا يخفى على متابع الموسيقى الكلاسيكية بأن الموسيقي العالمي فاغنر، قد خص الملحمة بعمل مركزي من موسيقاه، وهو ما يعرف باسم "الرباعية الأوبرالية أو حلقة نيبلونج"، واشتغل عليها لسنوات طويلة ما بين (1852-1876م)، وهي من أعظم أعماله.

 وثمة أمر آخر يهم القارئ العربي، وهو أن الملحمة تشير في عدة أبيات إلى عظمة الفرسان العرب، وقوة سيوفهم، وجمال خيولهم، ونفاسة حريريهم وجواهرهم وأحجارهم الكريمة، ونجد ذكرًا لمراكش وليبيا. وهنا يجد القارئ نموذجًا من ترجمة بعض أبيات الملحمة، مع التأكيد بأننا حافظنا على مسافة متوازنة ما بين الترجمة الحرفية والتعريب، فلا نلجأ إلى التعريب ما دامت الترجمة الحرفية تؤدي الغرض أو المعنى المراد. ويحمل الفصل الأول اسم "كريمهيلد" وهو اسم الأميرة والبطلة الأساسية في الملحمة، ويعني الاسم "درع المحارب أو البطل"، وأما الفصل الثاني فهو باسم "زيغفريد"، وهو اسم الأمير والبطل الأساسي أو القومي الجرماني، والمعنى الأصلي للاسم "نصر السلام"، أي البطل الذي يجلب السلام عبر الانتصار، وكلا الاسمين شائعان بكثرة في اللُّغات الجرمانيّة المعاصرة، مع فروقات بسيطة في اللفظ أو شكل الكتابة. 

ونود أن نستدرك بأن أستاذنا الدكتور وليد حمارنة، بعد الانتهاء من صياغة هذا المقال، أشار إلى أن الباحث المصري المعروف المرحوم مصطفى ماهر كان قد كتب فصلًا في مجلة تراث الإنسانية حول الملحمة [المجلد الرابع، العدد الأول، القاهرة، 1966، ص22-40]، وزودني بهذا المقال، فوجدتها تقدم فكرة ممتازة عن الملحمة، وفيها يؤكد المرحوم مصطفى ماهر على أهمية هذا العمل للتراث الثقافي الأوروبي والإنساني، وقد ترجم كذلك جزءًا من الأبيات. ومن الغريب أنه بعد مرور نحو نصف قرن على هذا المقال المهم جدًّا لم ينتبه الناشر العربي إلى ضرورة نقل هذا العمل إلى اللغة العربية. وإليكم أمثلة من أبيات الملحمة.

المغامرة الأولى : "كريمهيلد" والقصر  في "فورمس"

1- في الملاحم القديمة يُحكى لنا عجائب كثيرة: عن الأبطال المشهورين، عن المعاناة العظيمة، عن الفرح والاحتفالات، عن البكاء والعويل، عن كفاح المحاربين الشجعان – عن كل الأشياء المدهشة، يمكن أن تسمع الآن.

2- في بلاد "البورجوند" ترعرعت فتاة نبيلة لا مثيل لجمالها في البلاد جميعًا، سميت "كريمهيلد"[1].

امرأة فاتنة، يفقد الكثير من المقاتلين حياتهم بسببها.

3- لأجل حمايتها يهتم ثلاثة ملوك نبلاء وعظماء؛ "غونتر" و"غرنوت" وهما محاربان مجيدان، والفتى "غيزلهر" وهو أيضًا مقاتل فذ. "كريمهيلد" كانت أختهم التي يتولى هؤلاء الأبطال رعايتها.

4- "أوتا" الملكة العظيمة هي أمهم، أما أبوهم فيدعى "دانكْرت"، وقد أورثهم البلاد بعد موته. كان رجلًا عظيمًا، حاز في شبابه سلطة واسعة.

5- كان هؤلاء السَّادة ذوو الحسب السَّامق أسخياء وطامحين وجسورين على نحوٍ غير مألوف، كما أنهم أمراء استثنائيون في "بورجوند" - هكذا كانت تسمى بلادهم- وسيأتون -فيما بعد- ما يشبه المعجزة في مملكة "إتْزل".

6- في "فورمس"[2] على "الراين"[3] شيدوا مقرًّا حصينًا، خدمهم فيه فرسان بلادهم المهابين مع العز والشرف حتى نهايتهم؛ حيث يلقون حتوفهم جميعًا بسبب العداوة بين ملكتين.

7- كان الملوك الثلاثة – كما ذكرنا – يمتلكون قدرة قتالية كبيرة وغير مألوفة.

 وينتمي إلى حاشيتهم أفضل المحاربين، ممن عرفوا بالصلابة والجسارة وعدم التردد في القتال العنيف.

8- من هؤلاء كان "هاجن فون ترونيا" وأخوه الداهية "دانكْرات"، ثم "أورتفين فون مَتز"، والماركغراف[4] "غرا" والماركغراف "إيكافارت"، وكذلك "فولكر فون أَلْزي"، وجميع تابعيهم.

9- "رومْ أولد" المسؤول عن المطابخ الملكية كان أيضًا محاربًا قديرًا، كذلك "زينْ أولد" و"هونْ أولد" وجميعهم كانوا في خدمة الملوك الثلاثة، ومسؤولين عن البلاط الملكي وشرفه.

10- "دانكْرات" كان يخدم كـ"مارشال"[5]، أما قريبه "أورتفين فون مَتز" فكان مُضيف الملك. "زين أولد" القوي كان ساقي الخمر، و"هونْ أولد" كان حاجب الملك، وجميعهم كانوا يتعاونون لخدمة السُّلطة الملكية السَّامية.

11- تألَّق المَقرُ الملكيّ بِكمالِ سُلطته، وبِالكرامة العظيمة وحياة الشّهامة، الّتي قادتْ حياةَ السَّادة مع الفرح لوقتٍ طويلٍ، وبالتأكيد لن يستطيع أحد أن يحكي لكم كلّ شيء بشكلٍ كاملٍ.

12- في دائرة هذه الحياة المفعمة بالشرف، حلمتْ "كريمهيلد" بأنَّها تربي صقرًا بريًّا جميلاً وقويًّا، فينقض عليه نسران ويمزقانه أمام عينيها، فكانت على استعداد أن تتحمَّل أيّ مُعاناة على ألا ترى هذا المنظر.

13- روت الحلم لأمّها "أوتا"، الّتي بدورها لم تستطع إعطاء ابنتها تأويلاً مطمئنًا؛ "فالصقر الّذي تتعهدينه هو شابٌّ فتيٌّ ونبيلٌ، وإذا لم يحفظه الله، فإنكِ عما قريب تفقدينهُ.

14- "هل تتكلمين هنا عن رجل، أمّي الحبيبة؟ إذن فسوف أتخلى عن حبِّ الفارس إلى الأبد، ثم أعيش سعيدة حتّى موتي، ولن أقعَ أبدًا في المُعاناة بسبب الحبّ".

15- "هذا مجرد وعد ليس أكثر" -أجابتها أُمّها- "فلن تجدي السعادة في حياة القلب مثلما ستجدينها عند الوقوع في حبِّ الرَّجل، وسيبلغ جمالك الأنثوي غاية تفتحه إذا ما وهبك الله فارسًا ممتازًا للزواج".

16- لا تذهبي بعيدًا أمّي الحبيبة، فكثير من النِّساء تكلمن بما فيه الكفاية كيف انتهى بهن فرح الحبّ إلى الحزن.

 سوف أقي نفسي منه، وبعدها لا يسعني إلا أن أكون سعيدة.

17- تخلّت "كريمهيلد" فِي أفكارها تمامًا عن الحبّ.

وعاشت لبعض الوقت من دون أن تقابل شخصًا ما يمكنه أن يكون حبيبًا لها.

ومع ذلك فإنّها ستكون لاحقًا زوجة لأحد المحاربين النُّبلاء.

18- كان ذلك هو الصّقر، الّذي رأته في الحلم، الّذي فسَّرته لها أُمّها.

 وسيكون انتقام كريمهيلد رهيبًا من إخوتها حين يقتلوه.

 لأجل موت شخص واحد، سيموت كثير من أبناء الأمهات.

المغامرة الثانية : كيف تربى "زيغفريد" في بلاط "إكسانتن"

19- في تلك الأيام نشأ في هولندا ابن الملك النَّبيل "زيغموند" وزوجته الملكة "زيغلندا"، حيث يقيمون في "إِكسانتن"[6]، المدينة المنيعة المعروفة على نهر "الراين" السُّفلي.

20- (ذلك الابن) هو المحارب البارع "زيغفريد"، الّذي راح في همَّةٍ جسورةٍ يختبرُ قوته في عدد من البلاد الغريبة.

آه .. كم من الرِّجال الشُّجعان يلتقي لاحقًا في بلاد "البورجوند".

21- وحتّى قبل أن تكتمل رجولة ابن الملك الشُّجاع، حازت يده الأفعال العظيمة،

 التي يمكن للمرء أن ينشدها في الأشعار مرارًا، وهذا ما يجب أن نقوم به الآن معتمدين على مآثرهِ.

22- هناك العديد من الأمور الرّائعة الّتي يمكن أنْ تُقصَّ عن "زيغفريد":

ففي مقتبل شبابه انتشر صيت مغامراته في البلاد، حتّى انجذبت إلى بهاء طلّته أجمل النِّساء.

23- يستحضره المرء مع الحرص على ما يليق بمكانته، فقد أُعطيَ حِسَّ القيادة بالفطرة،

فاكتسبت به البلاد الخاضعة لوالده الشُّهرة، بما امتلكه من براعة في كلِّ شيء.

هذه كانت مجرد نماذج لنصوص الأشعار، على أمل أن تتكاتف جهود أهل الترجمة مع تمويل المؤسسات الثقافية لترجمة نصوص هذه الملحمة الشعرية الضخمة. ونحب أن نختم بالبيت الأخير من الملحمة:

"هنا تنتهي اليابسة ويبدأ الماء.. هنا يتوقف التاريخ".

 


[1] اسم "كريمهيلد" (Kriemhild) مكون في اللغة الألمانية القديمة من مقطعين (كريم Krim أو  grimغريم) ويعني قناع أو درع ، و(هيلدHild) ويعني البطل أو المحارب، فيكون المعنى المراد ( قناع البطل أو درع المحارب).

[2]  "فورمس" (Worms) مدينة ألمانية تقع على الضفة الغربية من نهر الراين، كان لهذه المدينة ومينائها شأن كبير في العصور الوسطى.

[3]  الراين(Rhein)نهر في أوربا يمر عبر سويسرا، فرنسا، ألمانيا، ليختنشتاين، وهولندا. يعتبر الراين أحد أهم وأطول الأنهار في القارة الأوروبية. اسم النهر مشتق من الكلمة السيلتية (Renos) والتي تعني الجاري.

[4]  الماركغراف (Markgraf)لقب وظيفي كان يطلق على ممثل الملك أو القيصر في قيادة الحملات العسكرية في مناطق النزاع الحدودية مع العدو.

[5]  المارشال (Marschall) رتبة عسكرية ملكية، كانت تطلق على قواد فرق الفرسان، وهي لا تزال تستخدم حتى اليوم في بعض الجيوش الحديثة للإشارة إلى الضباط الكبار في أعلى رتب الجيش.

[6]  "إكسانتن" (Xanten): مدينة ألمانية عريقة تقع على الحدود مع هولندا، وهي المدينة الألمانية الوحيدة التي تبدأ بحرف (X).

عبد الحكيم شباط
عبد الحكيم شباط
حاصل على دكتوراة فلسفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية من جامعة برلين. له العديد من المؤلفات العلمية والأدبية، باللغتين الألمانية والعربية.